تُواجه الولايات المتحدة الأمريكية أزمة إسكان خانقة، يُقدر عجزها بنحو 3.8 مليون منزل وفقاً لبيانات "ريالتر دوت كوم".
وفي مفارقة لافتة، تنتشر عبر البلاد مساحات ضخمة من التجزئة غير المستغلة، تُقدر بنحو 34 مليون قدم مربعة، تتركز غالبيتها في مراكز تسوق أغلقت أبوابها أو تواجه خطر الإغلاق الوشيك بسبب تراجع المبيعات وضعف الإقبال الجماهيري.
دفعت هذه التناقضات بين الحاجة والوفرة مطورين عقاريين وخبراء التخطيط الحضري إلى التفكير جدياً في إعادة توظيف تلك المساحات العملاقة لتلبية الطلب المتزايد على الوحدات السكنية.
وفي هذا الصدد، قالت جيسيكا لاوتز، نائبة رئيس الأبحاث في الرابطة الوطنية للوسطاء العقاريين، لمجلة "نيوزويك": "الولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى وحدات سكنية جديدة، وتوفر المراكز التجارية المهجورة هياكل جاهزة يمكن تحويلها إلى شقق سكنية في وقت أقصر بكثير مقارنة بالبناء من الصفر".
لماذا المراكز التجارية تحديداً؟ جذور الأزمة ومُسرِّع الجائحة
فكرة تحويل المراكز التجارية إلى مساكن ليست جديدة بالكامل، إلا أنها اكتسبت زخماً كبيراً منذ جائحة كورونا التي عملت كمُسرِّع لتوسع التجارة الإلكترونية، ما أدى إلى إغلاق آلاف المتاجر التقليدية.
تُظهر الأرقام حجم التدهور في قطاع التجزئة التقليدية؛ فبين عامي 2017 و2022، أُغلق ما معدله 1170 مركزاً تجارياً سنوياً. وفي عام 2023 وحده، أُغلقت 9260 وحدة تجزئة داخل الـ "مولات" مقابل افتتاح 6880 متجراً جديداً، مما يعكس خسارة صافية تجاوزت 2300 منفذ.
ووفقاً لتقديرات "كابيتال وان"، يبلغ عدد المراكز التجارية العاملة في أميركا حالياً نحو 1200 "مول"، إلا أن هذا العدد قد يتقلص إلى 900 فقط بحلول عام 2028.
وأوضح الأستاذ في ممارسات تجارة التجزئة بجامعة سيراكيوز، راي ويمر، أن جذور الأزمة تعود إلى التوسع المفرط في بناء "المولات" منذ ستينيات القرن الماضي.
ففي عام 2005، كانت لدى الولايات المتحدة نحو 24 قدماً مربعة من مساحات التجزئة لكل فرد، وهو رقم ضخم مقارنة بمتوسط يتراوح بين قدمين وثلاثة أقدام للفرد في معظم دول أوروبا.
ومع هذا البناء المفرط، جاء صعود التجارة الإلكترونية ليعيد تعريف سلوك المستهلك، الذي بات يفضل التصفح والشراء عبر الإنترنت.
ومع إغلاق المتاجر الكبرى التي كانت بمثابة ركائز لهذه المراكز، مثل "سيرز" و "جي سي بيني"، فَقَدت "المولات" جاذبيتها، مما أدى إلى فراغات ضخمة وانسحاب متسلسل للمستأجرين الأصغر.
نحو مدن صغيرة داخل "المولات": فرصة التكامل المجتمعي
أمام هذا المشهد، ينظر خبراء العقارات إلى المراكز التجارية المهجورة كفرصة استثنائية لبناء قرى حضرية مصغرة أو مجمعات متعددة الاستخدام، تضم مساكن، ومتاجر، ومطاعم، وخدمات مجتمعية متكاملة.
وتشير بيانات "ريالوجيك" إلى أن ما لا يقل عن 192 "مولاً" في الولايات المتحدة تعمل حالياً على وضع خطط للتحويل إلى شقق سكنية أو مجمعات متعددة الاستخدامات. ويعتقد روبرت دايتز، كبير الاقتصاديين في الرابطة الوطنية لبناة المنازل، أن هذه المواقع غالباً ما تتميز بقربها من شبكات النقل والبنية التحتية القائمة (كالطرق والمرافق)، ما يجعلها أماكن مثالية لتطوير مجتمعات سكنية متكاملة.
فوائد التحويل السكني:
حلول سريعة: استغلال المباني القائمة يوفر حلولاً جزئية وسريعة لأزمة السكن، بدلاً من انتظار سنوات لبناء مشروعات جديدة.
إحياء المنطقة: السكان الجدد يعيدون إحياء النشاط التجاري في المنطقة المحيطة، مما ينعش المطاعم والمتاجر القائمة ويجذب خدمات أساسية جديدة (صيدليات، عيادات).
تحديث معماري: تمثل هذه المشروعات فرصة لتحديث الطابع المعماري للمباني القديمة واستبدال الممرات الفارغة بمساحات سكنية عصرية.
التحديات أمام التنفيذ: الهياكل والإضاءة والتكاليف
لكن هذا التوجه الطموح لا يخلو من التحديات الهيكلية والمالية. إذ تتطلب إعادة تهيئة الهياكل الضخمة للمولات استثمارات ضخمة، لتجاوز مشكلات معقدة متعلقة بتوفير التهوية والإضاءة الطبيعية الكافية داخل الشقق، حيث لا تصلح إلا أجزاء محدودة من المباني للتحويل السكني.
كما أن عمليات إعادة التخطيط قد تكون معقدة، بطيئة، ومكلفة، مما قد يثني بعض المستثمرين عن المضي قدماً.
ويُضاف إلى ذلك أن بعض المطورين يفضلون هدم المول بالكامل وبناء مشروعات فاخرة جديدة، لا تعالج في النهاية أزمة القدرة على تحمل تكاليف السكن للفئات الأقل دخلاً. ويظل التساؤل قائماً: هل تقع هذه المواقع حقاً في مناطق ذات طلب مرتفع على السكن؟ إذ أن جدوى هذه التحويلات تعتمد في نهاية المطاف على العوائد المالية المتوقعة للمطورين.