تشهد المملكة المتحدة في عام ۲۰۲۵ موجة نزوح غير مسبوقة للأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال، في ظاهرة وصفها اقتصاديون بأنها “أكبر عملية هجرة مالية في تاريخ أوروبا الحديث”.
الأرقام التي تصدر عن تقارير موثوقة مثل Henley Private Wealth Migration Report ۲۰۲۵ و Financial Times ترسم صورة مثيرة للقلق، فنحو ۱۶,۵۰۰ مليونير بريطاني، يمثلون ما يقرب من ۹ ٪ من إجمالي الأثرياء في البلاد، يتهيأون لمغادرة المملكة هذا العام، حاملين معهم ما يقارب ۹۲ مليار دولار من الأصول القابلة للاستثمار.
هذا النزيف لا يقتصر على خسائر مالية مباشرة، بل يمتد ليشكل تهديداً طويل الأمد لقاعدة الابتكار والاستثمار التي بنت عليها بريطانيا قوتها الاقتصادية لعقود.
في المقابل، تقف الإمارات العربية المتحدة على الجانب الآخر من المشهد كأكبر مستفيد من هذا التحول، إذ تستعد لاستقبال صافي ۹,۸۰۰ مليونير في العام نفسه، وهو رقم يتجاوز بكثير تدفقات الأثرياء إلى أي دولة أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة التي ستستقطب ۷,۵۰۰ مليونير.
الإمارات، وبالأخص دبي وأبوظبي، أصبحت اليوم وجهة ذات جاذبية استثنائية للمستثمرين الأثرياء حول العالم، مدفوعة بمزيج فريد من الإعفاءات الضريبية، والاستقرار السياسي، والبنية التحتية المالية المتطورة، والأسباب الكامنة وراء هذا التحول الجذري في حركة رأس المال معقدة ومتداخلة، لكن لا يمكن تجاهل دور السياسة الضريبية البريطانية الجديدة في تسريع وتيرة النزوح.
منذ وصول حزب العمال إلى السلطة، تبنت الحكومة سياسة أكثر تشدداً تجاه أصحاب الثروات، كان أبرز معالمها إلغاء نظام “غير المقيم” الذي كان يوفر حماية ضريبية للأفراد المقيمين في بريطانيا لكن ذوي الموطن الضريبي الأجنبي.
النظام القديم كان يسمح لهؤلاء بتجنب دفع الضرائب على الدخل والأرباح الأجنبية لمدة تصل إلى خمسة عشر عاماً، لكن النظام الجديد خفض هذه المدة إلى أربع سنوات فقط.. هذا التغيير يعني أن أي ثري يقيم في بريطانيا سيتعين عليه دفع الضرائب الكاملة على أصوله العالمية بعد فترة قصيرة نسبياً، وهو ما يعد إشارة مقلقة بالنسبة لمن يفضلون التخطيط المالي طويل الأمد.
إلى جانب ذلك، وسعت الحكومة نطاق ضريبة الميراث لتشمل جميع الأصول العالمية بعد عشر سنوات من الإقامة، مع فرض نسبة تصل إلى أربعين في المئة، وهي من أعلى المعدلات على مستوى العالم.
هذه الخطوة، التي روج لها حزب العمال باعتبارها أداة لتحقيق العدالة الضريبية، أثارت ردود فعل غاضبة من مجتمع الأعمال وأثرياء بريطانيا، خاصة أولئك الذين يعتمدون على الصناديق الخارجية لحماية أصولهم من الضرائب.
إغلاق الثغرات القانونية التي كانت تتيح استخدام هذه الصناديق لتجنب ضريبة الميراث جعل كثيرين يشعرون بأن البيئة القانونية لم تعد ملائمة لاستراتيجية إدارة ثرواتهم.
تأثير هذه القرارات بدأ يظهر سريعاً على الأرض.. ففي لندن، بدأت أسواق العقارات الفاخرة في التباطؤ، حيث شهدت الأحياء الراقية مثل كينسينجتون ومايفير تراجعاً في الطلب من المستثمرين الأجانب الذين كانوا تاريخياً يشكلون جزءاً كبيراً من المشترين.
شركات إدارة الثروات البريطانية، التي أجرت معها صحيفة Financial Times استطلاعاً مشتركاً مع شركة الأبحاث Savanta، أكدت أن متوسط عدد العملاء الأثرياء الذين يخططون للمغادرة بلغ ۵۲ عميلاً لكل شركة، مع شركات يبلغ فيها العدد ۳۰۰ عميلاً. هذا النزيف من العملاء لا يعني فقط خسارة الأصول التي يديرونها، بل يهدد أيضاً قدرتهم على جذب عملاء جدد في ظل منافسة شرسة من مراكز مالية عالمية أخرى مثل سنغافورة وسويسرا ودبي.
على الجانب الآخر من المعادلة، تبدو الإمارات وكأنها صممت بيئتها الاقتصادية والقانونية خصيصاً لجذب هذه الشريحة من المستثمرين. الإعفاء الكامل من ضرائب الدخل والميراث يعد عاملاً أساسياً في الجاذبية، لكنه ليس الوحيد. فقد أطلقت الدولة برامج الإقامة الذهبية التي تمنح المستثمرين والمواهب إقامة طويلة الأمد مع امتيازات واسعة في التملك وإدارة الأعمال.
كما شهدت البنية التحتية المالية تطوراً هائلاً، حيث يستضيف مركز دبي المالي العالمي وسوق أبوظبي العالمي مئات مكاتب إدارة الثروات العائلية التي تدير أصولاً تقدر بتريليونات الدولارات. الإصلاحات القانونية في مجالات الميراث والزواج وحماية الأصول عززت ثقة المستثمرين، خاصة في ظل نظام قضائي يتميز بالكفاءة والشفافية في المناطق الحرة المالية.
التقارير تشير إلى أن الإمارات لا تستقطب فقط الأثرياء البريطانيين، بل أيضاً شريحة واسعة من أثرياء باكستان ولبنان وإيران، مدفوعين بعوامل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في بلدانهم.. هذا التنوع في مصادر الثروات الوافدة يعزز من مكانة الإمارات كمركز عالمي متعدد الجنسيات للمال والأعمال. اللافت أن هذه الهجرة المالية ليست مجرد انتقال جغرافي، بل إعادة تموضع لرأس المال في بيئات ترى فيها النخب الثرية فرصاً أكبر للنمو والحفاظ على الثروة.
الأرقام التي يرصدها تقرير Henley تكشف عن تحولات هيكلية في خريطة الثروات العالمية. أوروبا، التي كانت لعقود مركزاً لاستقرار رأس المال، تشهد اليوم موجة خروج متزامنة من عدة دول كفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيرلندا والنرويج والسويد. في المقابل، تتقدم دول مثل إيطاليا والبرتغال واليونان وسويسرا في استقطاب الأثرياء من داخل القارة وخارجها، عبر مزيج من الحوافز الضريبية وبرامج الاستثمار مقابل الإقامة أو الجنسية. لكن لا شيء يقترب من حجم المكاسب التي تحققها الإمارات، سواء من حيث الأعداد المطلقة أو النسبة إلى عدد السكان.
الأبعاد الاقتصادية لهذه الظاهرة عميقة. بالنسبة لبريطانيا، فإن فقدان شريحة كبيرة من أصحاب الثروات العالية يعني انكماشاً في القاعدة الضريبية، بما يحرم الخزينة العامة من مليارات الجنيهات سنوياً. كما أن خروج رواد الأعمال والمستثمرين المغامرين يهدد بتراجع بيئة الابتكار، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والخدمات المالية التي كانت لندن رائدة فيها. هذه الخسائر قد تتضاعف إذا ما تحولت موجة النزوح الحالية إلى اتجاه طويل الأمد، مما يضع ضغوطاً هائلة على الحكومة لإعادة النظر في سياساتها.
أما بالنسبة للإمارات، فإن تدفق هذه الثروات يحمل فوائد مباشرة وغير مباشرة. الأموال الجديدة تعزز احتياطيات العملة الصعبة، وتدعم نمو قطاع المكاتب العائلية وإدارة الثروات، وتنعش أسواق العقارات الفاخرة. على المدى الطويل، يسهم هذا التدفق في تنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط، ويعزز من دور الإمارات كلاعب محوري في النظام المالي العالمي.
كما أن استقطاب العقول الريادية التي تأتي مع هذه الثروات يوفر بيئة خصبة لتطوير قطاعات جديدة مثل التكنولوجيا المالية والطاقة النظيفة والصناعات الإبداعية.
لكن هناك أيضاً تحديات محتملة، فالمنافسة الإقليمية تزداد، خاصة مع سعي السعودية من خلال رؤيتها ۲۰۳۰ لتقديم نفسها كمركز مالي واستثماري عالمي. كما أن الاعتماد المفرط على الأثرياء الأجانب قد يطرح أسئلة حول استدامة النمو في حال تغير السياسات الضريبية أو الظروف الجيوسياسية عالمياً. ومع ذلك، يبدو أن الإمارات تدرك هذه المخاطر وتعمل على موازنة استراتيجيتها عبر الاستثمار في البنية التحتية، وتطوير التشريعات، وتنويع مصادر الجذب لتشمل المواهب والشركات إلى جانب رؤوس الأموال.
المشهد الحالي يعكس إذاً إعادة رسم جذرية لخريطة الثروات العالمية، حيث تفقد المراكز التقليدية في أوروبا قدرتها على الاحتفاظ بالنخب المالية، في حين تصعد وجهات جديدة تجمع بين بيئة ضريبية جاذبة واستقرار سياسي وتطور قانوني. بريطانيا، التي تواجه الآن خياراً صعباً بين الحفاظ على سياساتها الضريبية الجديدة أو تعديلها لاستعادة ثقة الأثرياء، تجد نفسها أمام معضلة حقيقية. فإذا كانت العدالة الضريبية هدفاً مشروعاً، فإن فقدان جزء كبير من القاعدة الضريبية قد يقوض هذا الهدف على المدى البعيد.
الأمر لم يكن وليد اللحظة أو حديث العهد، فعلى مدار العقدين الماضيين، شهد العالم تحولات ملحوظة في حركة الأثرياء وأصحاب الثروات العالية (HNWIs)، تحولات لم تعد مقتصرة على البحث عن فرص استثمارية، بل أصبحت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتغيرات السياسية، والضرائب، والأمن الشخصي، بل وحتى جودة الحياة. وإذا كانت الهجرة الاقتصادية التقليدية مرتبطة غالبًا بالطبقة الوسطى والباحثة عن فرص عمل، فإن هجرة النخبة الثرية تمثل مؤشراً حساساً على قدرة أي اقتصاد على الاحتفاظ برأس المال البشري والمالي في مواجهة المنافسة الدولية.
هذه الظاهرة، التي كانت في بدايات القرن الحادي والعشرين مقتصرة على مناطق النزاعات المسلحة أو الاقتصادات المتعثرة، تحولت اليوم إلى ظاهرة عالمية تشمل حتى الاقتصادات المتقدمة، وهو ما يمكن رصده من فنزويلا وأوكرانيا إلى بريطانيا والصين. وتكشف الحالات السابقة كيف تتكرر الأنماط: أزمات سياسية واقتصادية تؤدي إلى فقدان الثقة في المستقبل المحلي، فتبدأ رؤوس الأموال في البحث عن ملاذات بديلة توفر الاستقرار القانوني، الأمان الضريبي، وفرص الاستثمار.
تُعد فنزويلا أحد أبرز الأمثلة في التاريخ الحديث على هجرة النخبة الاقتصادية والمهنية بشكل جماعي، إذ بدأت الظاهرة تدريجيًا منذ عهد الرئيس هوغو تشافيز مطلع الألفية، لكنها تسارعت بشكل كبير بعد تولي نيكولاس مادورو الحكم. وفقًا لتقارير موثوقة، غادر نحو ۱.۵ مليون فنزويلي من أصحاب الكفاءات والثروات البلاد بين ۱۹۹۹ و۲۰۱۴
هؤلاء شملوا رجال أعمال، أطباء، مهندسين، وأصحاب شركات متوسطة وكبيرة، كانت أصولهم وعملياتهم الإنتاجية تشكل جزءًا مهمًا من الاقتصاد الفنزويلي.
مع الانهيار الاقتصادي الشامل الذي شهدته البلاد لاحقًا، تزايدت موجات النزوح لتصل إلى أكثر من ۷ ملايين شخص منذ ۲۰۱۵، وهي أكبر أزمة لجوء وهجرة في تاريخ الأمريكتين الحديث
وبينما لجأت الطبقات الأقل ثراء إلى دول الجوار مثل كولومبيا والبرازيل، توجهت النخبة الاقتصادية إلى وجهات أبعد، مثل ميامي ومدريد وبنما سيتي، حيث وجدت بيئات ضريبية وتنظيمية ملائمة لإعادة تأسيس أنشطتها. هذه الهجرة لم تكن فقط فقدانًا لرأس المال المالي، بل كانت استنزافًا لرأس المال البشري المبدع، ما عمّق من أزمة الابتكار والاستثمار في الداخل.
إذا كانت فنزويلا قد مثّلت نموذج الانهيار الاقتصادي الداخلي، فإن الحرب الروسية الأوكرانية قدّمت نموذجًا آخر لهجرة الأثرياء بفعل الصدمات الجيوسياسية المباشرة. منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في ۲۰۱۴، بدأت شرائح من الأثرياء الروس بتحويل أموالهم وأصولهم إلى الخارج، لكن الغزو الشامل لأوكرانيا في فبراير ۲۰۲۲ جعل هذه العملية أكثر سرعة واتساعًا.
تقديرات Henley & Partners تشير إلى أن روسيا فقدت في ۲۰۲۲ وحدها نحو ۱۵,۰۰۰ من أصحاب الثروات العالية، وهو أكبر نزوح سنوي لهذه الفئة في العالم، بينما خسرت أوكرانيا نحو ۲,۸۰۰ مليونير، أي ما يقارب نصف نخبتها المالية
بالنسبة لروسيا، كان الدافع الأساسي هو العقوبات الغربية، وتجميد الأصول في الخارج، والمخاطر القانونية على الممتلكات داخل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. أما الأثرياء الأوكرانيون، فقد دفعهم الدمار المباشر للبنية التحتية، وانهيار بيئة الأعمال، إلى البحث عن ملاذات آمنة في بولندا، ألمانيا، ودول الخليج.
هذه الحالة أبرزت كيف يمكن للأحداث العسكرية أن تدمر شبكات الثقة والاستقرار الضرورية للحفاظ على رؤوس الأموال الخاصة، وأن القرارات المتعلقة بالضرائب أو الأنظمة القانونية ليست العامل الوحيد الذي يحرك موجات الهجرة، بل قد تكون الأحداث الطارئة والتهديدات الوجودية أكثر تأثيرًا في وقت قصير.
على النقيض من النماذج المرتبطة بالأزمات العنيفة، تُظهر العلاقة بين الأرجنتين وأوروجواي مثالًا على الهجرة الضريبية والسياسية في بيئة سلمية نسبيًا. على مدى العقد الماضي، واجهت الأرجنتين أزمات تضخم متكررة، وسياسات ضريبية متشددة، وعدم استقرار تشريعي أثر على قرارات الاستثمار. وفي المقابل، طورت أوروجواي إطارًا قانونيًا وضريبيًا جذابًا، مع بيئة سياسية مستقرة ومعدلات ضرائب منخفضة على الدخل الأجنبي.
مدينة بونتا ديل إيستي تحولت إلى مركز جذب للأثرياء الأرجنتينيين، حيث حصل العديد منهم على الإقامة الضريبية في أوروجواي للاستفادة من إعفاءات طويلة الأمد على الضرائب العالمية. ما يميز هذه الظاهرة هو أن انتقال الثروة لم يكن نتيجة أزمة طارئة، بل نتيجة مقارنة مستمرة بين بيئتين اقتصاديتين متجاورتين، حيث فضلت النخبة بيئة تضمن استقرار رأس المال على المدى الطويل.
في آسيا، برزت اليابان كوجهة جديدة للأثرياء الصينيين، خاصة بعد أزمة العقارات التي ضربت الصين منذ ۲۰۲۰، والتي شهدت انهيار شركات كبرى مثل «إيفرغراند» و»كانتري غاردن». ومع تصاعد المخاوف بشأن تباطؤ الاقتصاد، وتدخل الدولة في القطاع الخاص، بدأ عدد متزايد من الأثرياء الصينيين في البحث عن وجهات توفر أمانًا قانونيًا وبيئة تعليمية عالية الجودة لأبنائهم.
تقرير Japan Times استنادًا إلى بيانات Henley & Partners أوضح أن نحو ۶۰۰ مليونير يخططون للانتقال إلى اليابان بحلول ۲۰۲۵
. ورغم أن اليابان ليست معروفة بانفتاحها الكبير على الهجرة، إلا أن سمعتها في الاستقرار السياسي والأمني، ونظامها القضائي الصارم، ومكانتها كمركز للتكنولوجيا المتقدمة، جعلتها نقطة جذب للفارين من مخاطر اقتصاداتهم المحلية.
الهجرة الواسعة للأثرياء ليست مجرد قصص فردية عن الانتقال بين البلدان، بل هي مؤشر اقتصادي استراتيجي. فخروج أصحاب الثروات العالية من أي دولة يعني فقدان رأس مال استثماري، وانخفاض الطلب على السلع والخدمات الفاخرة محليًا، وتراجع الاستثمارات في المشاريع الابتكارية. كذلك، غالبًا ما تصاحب هذه الهجرة مغادرة العقول المدبرة وراء الشركات، ما يترك فراغًا في القيادة الاقتصادية.
على الجانب الآخر، فإن الدول المستقبِلة تحقق مكاسب واضحة، تشمل تدفق رؤوس الأموال، زيادة النشاط في أسواق العقارات الفاخرة، وتوسيع قاعدة المستثمرين ورواد الأعمال. هذا ما يفسر تنافس دول مثل الإمارات وسويسرا وسنغافورة على استقطاب هذه الفئة عبر برامج الإقامة الذهبية، وإعفاءات ضريبية، وبنية تحتية مالية متطورة.
النماذج التي استعرضناها، من فنزويلا وأوكرانيا وروسيا، مرورًا بالأرجنتين والصين، تكشف أن هجرة الأثرياء ليست ظاهرة عابرة، بل هي جزء من إعادة تشكيل جغرافيا الثروة في العالم. في بيئة عالمية تزداد فيها المنافسة على رأس المال البشري والمالي، ستظل قدرة الدول على الاحتفاظ بأثريائها أو استقطاب أثرياء جدد رهينة بمرونتها الضريبية، واستقرارها السياسي، وكفاءتها في تقديم بيئة آمنة للاستثمار.
من هنا، يصبح فهم أنماط هذه الهجرة ضرورة لصناع القرار، ليس فقط لتجنب نزيف الثروة، ولكن أيضًا لاستغلال الفرص التي يتيحها تدفق رأس المال العالمي نحو بيئات أكثر ملاءمة. وفي عالم ما بعد الأزمات، قد تتحول هذه المنافسة على الأثرياء إلى ساحة جديدة للصراع الاقتصادي بين الأمم.
وعلى الرغم من أن هجرة الأثرياء قد تبدو جنوحاً فردياً لا علاقة لها بالاقتصاد الكلي، فإن آثارها تمتد إلى الاقتصاد الوطني والبيئة الاستثمارية بطرق عديدة، غير واضحة للوهلة الأولى. فالرأسمال الأكثر سيولة والطبقة الأعلى ثراء تمثل شريانًا ماليًا سريع الحركة يستجيب لعوامل سياسية، تشريعية، وبيئية، ما يجعل دولتين تتنافسان على جلب أو منع مثل هؤلاء الأفراد. ولأنهم يمتلكون رأس المال، والشركات، والوظائف، فإن انتقالهم إلى أو من دولة ما يحمل تبعات اقتصادية حقيقية، رغم أن تأثيرات هذه الحركة تختلف باختلاف طبيعة الدولة، قدرتها على الاستفادة، واستجابتها السياساتية.
عندما يقرر الأثرياء مغادرة بلدهم، يفقد ذلك البلد مصادر تمويل مهمة قد ت hemorrhage في شكل أصول مستثمرة، استثمارات جديدة، ونشاط اقتصادي. لكن خسارة الهجرة ليست مطلقة، فهناك ما يعرف بـ»الريميمتنس» التحويلات المالية التي يرسلها المهاجرون إلى وطنهم. تظهر الدراسات في دول مثل مصر والدول العربية أن التحويلات تسهم بشكل إيجابي في النمو الاقتصادي، عبر دعم الاستهلاك والتمويل المحلي، وإن كانت فعليتها مرتبطة بمستوى التطور المالي في البلاد
هذه التحويلات قد تتحول إلى استثمار إذا توافر إطار مالي متين، وخلاف ذلك يمكن أن تنحصر في الاستهلاك، ما لا يساهم في النمو المستدام، بل يخلق ضغطاً تضخمياً
. أما ما يُعرَف بـ»نزيف العقول» (Brain Drain)، فيبدو أكثر ضررًا، إذ يغادر البلد المصدر الكفاءات الطبية والتعليمية والتقنية، ما يرهق القطاعات الحيوية ويزيد من فجوة التنمية.
تستفيد الدول الجاذبة لهجرة الأثرياء والمهرة من روافد مالية مباشرة واستثمارات جديدة، إلى جانب ما يسدّه هؤلاء الأفراد من كيانات أعمال وأثر مضاعف على الاقتصاد المحلي. على سبيل المثال، تشير مؤسسة هينلي إلى أن الإمارات متصدّرة الوجهات المستقبلية للأثرياء، متقدمة على الولايات المتحدة، بما يجعلها وجهة استراتيجية لرؤوس الأموال العالمية
وعلى نطاق أوسع، تؤكد تقارير من صندوق النقد الدولي أن دخول المهاجرين بغض النظر عن مستوى مهاراتهم يرفع الإنتاجية، ويرفع الناتج المحلي الإجمالي للفرد بنسبة تصل إلى ۲٪ على المدى الطويل لكل نقطة مئوية إضافية من المهاجرين في السكان
النسخة الموسعة من هذا البحث تشير أيضًا إلى أن الفوائد تتوزع على جميع شرائح المجتمع: حيث ترتفع متوسطات الدخل للفئات المتوسطة والعليا دون زيادة ملحوظة في عدم المساواة داخل الفئات الدنيا
دولة مثل بولندا التي استقبلت أعدادًا كبيرة من المهاجرين الأوكرانيين بعد الحرب لاحظت أثراً إيجابياً مباشرًا على الموازنة والدخل القومي: فقد دفع هؤلاء المهاجرون ضرائب أكثر مما استلموا من إعانات، وساهموا بنسبة تتراوح بين ۰.۵٪ و۲.۴٪ من نمو الناتج المحلي الإجمالي، ما أكد أن الهجرة يمكن أن تكون محركًا فوريًا للنمو في بلد مضيف
التحول في سياسات الضرائب يُعد محفزًا قويًا لهجرة الأثرياء. المملكة المتحدة على سبيل المثال، شهدت تراجعًا في قدرتها على جذب الأثرياء بعد التعديلات الضريبية وتقليص برامج مثل تأشيرة المستثمر Tier ۱، ما دفعها إلى صدارة الدول المفقودة لأصحاب الثروات العالية عالميًا
هذا النزيف يعكس نقطة مفصلية يمكن أن تضع الاقتصاد عرضة لاضطرابات مالية، خصوصًا عندما تقل قوة قاعدة دافعي الضرائب الأثرياء العزيز القوى.
وعلى الجانب المقابل، دول الإمارات، والولايات المتحدة، وإيطاليا وغيرها نجحت في تقديم مسارات إيجابية، مثل الإقامة مقابل الاستثمار أو الامتيازات الضريبية، ما جذب إلى أدراج هذه الدول كثرة من رؤوس الأموال الجديدة، والتي بدورها تعزز النشاط الاقتصادي المحلي وتولد دعماً لقطاع الأعمال
رغم أن الدراسات الاقتصادية تشير إلى منافع الهجرة على مستوى الدخل والإنتاجية العامة، فإن بعضها يكشف أن هذه المنافع قد لا تصل إلى كل فرد مهاجر على قدم المساواة. فقد وجدت تحقيقات صحفية أوروبية أن قرابة نصف الخريجين المهاجرين يعملون في وظائف أقل من مستوى مؤهلاتهم، وهو ما يُعرف بـ»الهدر البشري» (brain waste)، ما يمثّل خسارة محتملة للاقتصاد المضيف، وليس فقط للفرد
هذا يضع تحديًا أمام الهيئات الحكومية وصانعي السياسات: كيف يُحفّز دمج اللاجئين أو المهاجرين المهرة في الوظائف الملائمة، حتى لا يضيع مصدر معرفي جدير بالاستثمار؟
في ضوء ما سبق، تتضح الصورة بأن هجرة الأثرياء ليست مجرد نقل لبضعة ملايين من المال، بل هي حراك معياري يعبّر عن مدى جاذبية الاقتصاد ومرونته السياسية والضريبية. فالدول التي تقدم بيئة مستقرة وضريبياً جذابة وقانونياً موثوقاً بها، تصبح واحات للمستثمرين، وزمام إعادة توزيع الثروة العالمية بيدهم.
أما كلاعبين سابقين مثل بريطانيا، فإهمالهم الهجرة الاقتصادية للأثرياء قد يشكل تهديدًا على الاستقرار المالي طويل المدى، ففي خضم المنافسة المتصاعدة على رؤوس الأموال، لا يمكن للدولة المتزمتة بالضرائب أو التي تعاني من ضبابية السياسات أن تتفوق في جذب النخب الاستثمارية.
في عالم ما بعد العولمة، حيث يصبح التنقل المالي والمهني أكثر سهولة من التنقل الجغرافي، سيكون صانعو السياسات أمام اختبار.. هل ستكون بلادهم جاذبة للاستثمار والابتكار أم مضيّعة لرأس المال وتحولات الفرص؟
في النهاية، ما نشهده اليوم ليس مجرد أرقام في تقارير اقتصادية، بل تحولات عميقة في حركة رأس المال العالمي، حيث تتحرك الثروات كما تتحرك المياه، باحثة عن الممرات الأقل مقاومة. الإمارات، بما توفره من بيئة ملائمة، تبدو اليوم كمصب طبيعي لهذه التدفقات، بينما بريطانيا، التي كانت يوماً من أكبر خزانات الثروات، تجد نفسها أمام خطر الجفاف المالي إذا لم تعِ حجم التحدي وتتعامل معه بحكمة وسرعة.