في خطوة تعبر عن تصاعد الاعتماد الحكومي على أدوات الدين المحلي لتمويل عجز الموازنة العامة، أعلن البنك المركزي المصري عن قبوله عطاءات على سندات خزانة بقيمة 42.12 مليار جنيه، عبر طرح فئات متعددة من السندات بعوائد متفاوتة. الطرح شهد إقبالًا كبيرًا من البنوك والمؤسسات المالية، مقابل أسعار فائدة مرتفعة عكست التوازن الدقيق بين الحاجة للتمويل من جهة، والحذر من تحميل الموازنة بأعباء خدمة الدين من جهة أخرى.
خلال أحدث مزادات أدوات الدين، أعلن البنك المركزي المصري أنه قبل عطاءات بقيمة 42.12 مليار جنيه موزعة على سندات لأجل عامين وثلاثة وخمسة أعوام، بعوائد تراوحت بين 19.98 % وحتى 31.25 %، شملت سندات بعائد ثابت وأخرى بعائد متغير. هذه المزادات تُعد أحد الوسائل التي تعتمد عليها الحكومة لتوفير التمويل اللازم لتغطية العجز المالي، بدلاً من الاقتراض الخارجي الذي يُعد أكثر تكلفة في ظل الأوضاع العالمية المتقلبة وارتفاع أسعار الفائدة عالميًا.
تُطرح سندات الخزانة عبر البنك المركزي وتُتاح للاكتتاب أمام البنوك التجارية، وشركات التأمين، وصناديق الاستثمار، وبعض المؤسسات المالية الدولية. ولا يُتاح الاكتتاب فيها حاليًا للأفراد بشكل مباشر، وإن كان يمكن تداول بعض هذه السندات لاحقًا في السوق الثانوي من خلال البورصة.
في هذا الطرح، تقدّمت المؤسسات المالية بـأكثر من 83 عرضًا للاكتتاب في السندات الثلاث المطروحة، ما يدل على رغبة قوية من القطاع المصرفي في استثمار السيولة داخل أدوات مضمونة ومدعومة من الحكومة.
ضمن تفاصيل المزادات التي نفذها البنك المركزي المصري مؤخرًا، جاءت فئة سندات الخزانة لأجل ثلاث سنوات في الصدارة من حيث حجم التغطية والقبول، إذ بلغ إجمالي العطاءات المقبولة نحو 36.14 مليار جنيه، من إجمالي طلبات تجاوزت 46.5 مليار جنيه، ما يعكس شهية قوية لدى البنوك والمؤسسات المالية للاستثمار في أدوات الدين متوسطة الأجل. وقد تراوحت أسعار الفائدة المقبولة بين 23.88 % و24 %، بينما بلغ متوسط العائد المرجح نحو 23.999 %، في حين تم تثبيت الكوبون عند 23.44 %، وهو ما يوازي التوجه الحكومي إلى تثبيت تكلفة الاقتراض في ظل توقعات باستمرار التضخم.
أما سندات الخزانة لأجل خمس سنوات بعائد ثابت، فقد شهدت قبولًا محدودًا مقارنة بالإقبال، حيث تم اعتماد عرضين فقط بقيمة 1.25 مليار جنيه من أصل طلبات تجاوزت 4.2 مليار جنيه، وتراوحت أسعار الفائدة المقبولة بين 19.98 % و19.99 %، فيما بلغ متوسط العائد المرجح 19.982 %، وتم تثبيت الكوبون عند 19.945 %. يشير هذا إلى توجه وزارة المالية نحو تقليص الاقتراض طويل الأجل بسعر فائدة مرتفع، وتفضيل تغطية العجز عبر أدوات أقصر أجلاً وأكثر مرونة.
وفيما يخص سندات الخزانة لأجل عامين، فقد تم قبول تسعة عروض بقيمة إجمالية بلغت 1.10 مليار جنيه، رغم تلقي البنك المركزي عروضًا من 30 مؤسسة مالية بقيمة تجاوزت 7.7 مليار جنيه، وهو ما يعني أن أغلبالعروض لم يتم قبولها بسبب طلب معدلات فائدة مرتفعة وصلت إلى 30 %. العائد المقبول تراوح بين 24.20 % و24.30 %، فيما بلغ متوسط العائد المرجح 24.259 %، وتم تثبيت الكوبون عند 24.114 %. ويعكس هذا المزاد استمرار التوجه نحو الاستفادة من آجال الدين القصيرة في بيئة تتسم بعدم اليقين فيما يتعلق بأسعار الفائدة خلال الفترة المقبلة.
أما أبرز تحول في أدوات التمويل فقد جاء مع إدراج سندات الخزانة لأجل خمس سنوات بعائد متغير، حيث تم قبول عطاءات بقيمة 3.63 مليار جنيه، بعوائد تراوحت بين 31.10 % و31.25 %، وبمتوسط عائد مرجح بلغ 31.2355 %. وتم تحديد الكوبون عند مستوى قريب من العائد، بواقع 31.2376 %، مع ربط العائد بمؤشر مرجعي سجل 24.50 % في تاريخ الإصدار. هذا الطرح يعكس توجهًا جديدًا من وزارة المالية لاعتماد أدوات مرنة تسمح بالتكيف مع التغيرات المحتملة في معدلات التضخم والفائدة، ما يمنح المستثمرين مزيدًا من الثقة ويخفف من عبء الالتزام بسعر فائدة ثابت طويل الأجل في ظل أوضاع اقتصادية غير مستقرة.
ماذا يعني هذا الرقم الكبير (42 مليار جنيه)؟
قبول هذا الحجم من العطاءات يعني أن الحكومة المصرية تمكنت من توفير تمويل داخلي سريع لتغطية جزء كبير من التزاماتها، سواء في شكل رواتب، دعم، أو مشروعات تنموية. ويعكس ذلك أيضًا أن السوق المصرفي المحلي لا يزال يتمتع بسيولة كافية تسمح له بالاكتتاب في أدوات دين حكومية، وهو مؤشر مهم على استقرار المنظومة المصرفية.
في الوقت نفسه، هذا الرقم يعكس ارتفاعًا في تكلفة الاقتراض المحلي على الدولة، حيث إن العوائد المرتفعة – لا سيما التي تخطت %30 في بعض الفئات – تمثل أعباء كبيرة على الموازنة مستقبلاً.
لماذا هذا الإقبال الكبير من البنوك؟
البنوك تنظر إلى سندات الخزانة باعتبارها أدوات استثمار آمنة، ومضمونة من الدولة، وتحقق عوائد تفوق معدلات الفائدة البنكية التقليدية. في ظل تباطؤ الإقراض التجاري وتقلص الفرص الاستثمارية المباشرة، تمثل هذه السندات فرصة للبنوك لتعظيم عوائدها دون تحمل مخاطر مرتفعة.
العائد المرتفع خاصة في الفئات قصيرة ومتوسطة الأجل يتيح للبنوك تحصيل عوائد مجزية وفي وقت زمني قريب نسبيًا، ما يجعلها خيارًا مفضلًا في بيئة اقتصادية تتسم بالتقلب.
ما الفرق بين العائد الثابت والعائد المتغير؟
العائد الثابت: هو نسبة محددة تلتزم الحكومة بسدادها للمستثمر طوال مدة السند، بغض النظر عن تغيرات السوق.
العائد المتغير: مرتبط بمؤشر مرجعي (مثل معدل الفائدة الرئيسي أو معدل التضخم)، ويتغير دوريًا. هذا النوع يحمي المستثمرين من خسارة القيمة الحقيقية لأموالهم في حال ارتفعت الفوائد أو التضخم، لكنه قد يمثل مخاطرة أكبر على الموازنة العامة.. ولذلك بالغ الأثر على الاقتصاد المصري.. من جهة، يُساعد هذا الطرح على سد الفجوة التمويلية دون الحاجة إلى قروض خارجية قد تكون مشروطة أو ذات كلفة أعلى، كما يُعزز ثقة السوق المحلية في قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها.
لكن من جهة أخرى، ارتفاع أسعار الفائدة بهذا الشكل يُشكّل عبئًا طويل الأمد على الموازنة، خاصة إذا استمرت الحكومة في الاعتماد المكثف على أدوات الدين المحلي. فكلما زادت نسبة الفوائد على أدوات الدين، ارتفعت معها تكلفة خدمة الدين العام، ما قد يُقلّص من قدرة الدولة على الإنفاق التنموي مستقبلاً. ؤكد نتائج هذا الطرح أن الحكومة المصرية لا تزال تفضّل التمويل المحلي كخيار رئيسي في إدارة الدين العام، مع محاولة الموازنة بين تلبية احتياجاتها الفورية والحفاظ على التزامات مالية معقولة على المدى الطويل.
في الوقت نفسه، تبرز البنوك والمؤسسات المالية كمستفيد رئيسي من هذه الأدوات، في ظل عوائد مغرية تفوق كثيرًا ما هو متاح في أدوات الادخار التقليدية، يبقى التحدي الأكبر في المرحلة المقبلة هو خفض مستويات الفائدة تدريجيًا، مع تعزيز الثقة في الاقتصاد الكلي، وتقليل الاعتماد على الدين، وتوسيع قاعدة الإيرادات.