تكهنات بتحول دائم في مكانة الدولار كملاذ آمن.. وتحذيرات من تقلبات كبيرة على المدى القصير
التوقعات طويلة المدى سلبية لانخفاض التجارة العالمية وتراجع استخدام الدولار وإعادة تقييم نسب التحوط
غموض مستقبل الدولار وعدم استقراره يؤثر بشكل كبير على الشركات العاملة في المنطقة العربية
مع تسارع وتيرة حرب الرسوم التجارية التي تشنها الولايات المتحدة يشهد الدولار تطورات متلاحقة قد تغير تداعياتها خريطة الاقتصاد العالمي الأمر الذي يفرض على المستثمرين بحسب توصيات خبراء أن يعدوا العدة لاستراتيجية ديناميكية مرنة ، قادرة على التأقلم مع دورة نقدية أكثر مرونة ونظام عالمي متعدد العملات.
والدولار الأمريكي، رغم مكانته التاريخية، لم يعد في موقع الحصانة الكاملة, في ضوء التطورات التي يشهدها الاقتصاد العالمي على خلفية تهديدات الإدارة الأمريكية بفرض رسوم جمركية على العديد من دول العالم اعتبارا من أول أغسطس المقبل الأمر الذي دفع الخبراء الذين يرون العديد من الأسباب التي قد تجعل الدولار عملة «أكثر خطورة» ، في مقدمتها ارتفاع حالة عدم اليقين المتعلقة بالسياسات التجارية والرسوم الجمركية، وقضايا تتعلق باستقلالية الاحتياطي الفيدرالي، إلى جانب مخاوف تتعلق بالعجز المالي، وتزايد اتجاه الأسواق إلى تنويع استثماراتها بعيداً عن الأصول الأمريكية.
ومن بين الأسباب أيضا الانخفاض الحاد ، الذي حدث في قيمة الدولار هذا العام، والذي جاء نتيجة تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بفرض رسوم قاسية على شركاء التجارة حول العالم، قد أثار تكهنات بشأن إمكانية حدوث تحول دائم في مكانة الدولار كملاذ آمن ، ورغم أن محللي «جولدمان ساكس» لا يتوقعون حدوث مثل هذا التحول، فإنهم حذروا من أن الدولار قد يواجه تقلبات كبيرة في المدى القصير.
وواقعيا ، لم يعد تفوّق الدولار مضمونًا كما في السابق ، فالتغيير جارٍ، وعلى الجميع التفاعل معه بحكمة والتحول نحو عالم مالي متعدد الأقطاب لم يعد سيناريو افتراضيًا، بل واقعًا في طور التشكل ، والدول العربية ومنها مصر ، مطالبة بإعادة تقييم انكشافها على هذه العملة، ليس فقط لمواجهة التقلبات المالية، بل للتحصين من تداعيات جيوسياسية أعمق، فالأزمات لا تنذر قبل وقوعها، بل تتسلل تدريجيًا إلى أن تُفرض كأمر واقع، وعلى الحكومات، والشركات، والأفراد أن يبدؤوا اليوم خطوات عملية للتحوّط، قبل أن تصبح كلفة التأخير باهظة.
التوقعات التقليدية تقول أن قيمة الدولار قد ترتفع مع تسبب الرسوم الجمركية في انخفاض الطلب على المنتجات الأجنبية لكن أداء الدولار مؤخراً لم يقتصر على الفشل في تعزيز قوته فحسب، بل انخفض بشكل حاد أيضاً، مما حير الاقتصاديين وأضرّ بالمستهلكين.
وبحسب توقعات وحدة الأبحاث ببنك غولدمان ساكس ، سينخفض الدولار خلال الأشهر الـ12 المقبلة بنحو 10 % مقابل اليورو، وحوالي 9 % أمام الين الياباني والجنيه الإسترليني ، وسوف تنخفض ثقة المستهلكين والشركات وذلك نتيجة تزايد التوترات التجارية وغيرها من السياسات التي تُثير حالة من عدم اليقين .
وقد أشار تقرير صادر عن الوحدة إلى أن آفاق العائدات الاستثنائية للولايات المتحدة مسؤولة عن التقييم القوي للدولار ولكن إذا أثرت الرسوم الجمركية على هوامش ربح الشركات الأميركية والدخل الحقيقي للمستهلكين الأميركيين، فقد تؤدي إلى تآكل هذه الاستثنائية، وبالتالي تقويض الركيزة الأساسية للدولار القوي.
وفي واحدة من الظواهر «اللافتة» هذا العام، بحسب «جولدمان ساكس»، الدولار أصبح يميل أكثر للانخفاض بالتزامن مع هبوط الأسهم الأمريكية ، هذه الديناميكية ظهرت أكثر من ضعفي المعدل الذي سجل خلال السنوات العشر الماضية.
كما لاحظ المحللون في «جولدمان» ، أن هناك مؤشراً أكثر إثارة للقلق يتمثل في «تراجع جاذبية الأصول الأمريكية»، عندما تنخفض الأسهم والسندات والدولار جميعاً في الوقت نفسه – وهي ظاهرة أصبحت أكثر شيوعاً في الآونة الأخيرة .
الملاذ الآمن
ووفقاً لبيانات جمعتها وكالة «بلومبرغ»، فإن الدولار يواصل – من بعض الزوايا – التصرف كعملة عالية المخاطر حتى مع استقراره النسبي مؤخراً. وتُظهر هذه البيانات أن الارتباط بين الدولار ومؤشر تقلبات العملات في مجموعة الدول العشر الكبرى (G10) بلغ أدنى مستوياته في سبع سنوات.
وهذا يشير إلى أن الدولار أصبح يتصرف بشكل أقل كملاذ آمن، وأقرب إلى كونه مصدراً للتقلبات ، وعلى مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، كان هذا الارتباط في العادة موجباً بشكل واضح ، كما يضع هذا التغير موضع تساؤل الفرضية التقليدية في الأسواق، والتي تقول إن تكلفة التحوط تنخفض عندما يضعف الدولار.
في «بلومبرغ»: «التوقعات طويلة المدى للدولار سلبية لأسباب متعددة: انخفاض التجارة العالمية، تراجع استخدام الدولار، وإعادة تقييم نسب التحوط ، لكن مع ذلك، فقد انخفض الدولار فعلاً بشكل كبير، والأسواق نادراً ما تسلك طريقاً مباشراً نحو وجهتها النهائية. لذا من المرجح أن نشهد ارتداداً قريباً».
عوامل التراجع
تشير بيانات «WarrenAI» إلى أن الدولار فقد زخمه كمركز للثقة العالمية ، وتوضح المنصة أن سلسلة الانخفاضات المتتالية للدولار ترجع إلى مجموعة من العوامل، أبرزها:تراجع المخاطر الجيوسياسية: انخفاض حدة التوتر في الشرق الأوسط خفّف من الحاجة إلى الدولار كأصل دفاعي.
توقعات خفض أسعار الفائدة: مع تسعير الأسواق لاحتمال خفض الفائدة الأميركية بنحو 64 نقطة أساس خلال 2025 انخفضت العوائد الحقيقية على الدولار، ما أفقده الكثير من جاذبيته ، كما أن تحسن الحوار التجاري مع الصين هدأت المخاوف من تصعيد جمركي جديد، ما ساعد على ارتفاع شهية المخاطرة وتراجع الإقبال على العملة الأميركية.
وفقًا لتحليل بنك أوف أمريكا ، الذي ترصده WarrenAI، فإن استمرار ضعف الدولار قد يمنح البنوك المركزية في الأسواق الناشئة فرصة لتخفيف السياسات النقدية دون تهديدات كبيرة على استقرار عملاتها، مما يفتح الباب أمام تدفقات استثمارية جديدة نحو هذه الاقتصادات.
لكن الحذر يبقى مطلوباً ، خوفا من صدمة تضخمية جديدة قد تظهر في النصف الثاني من العام، ما قد يُعيد الفيدرالي إلى دائرة التشدد النقدي، ويقلب سيناريو تراجع الدولار ، توصي أدوات التقييم في WarrenAI المستثمرين بمراقبة تحركات الدولار عن كثب، لا سيما أولئك الذين يعتمدون على قوته في محافظهم الاستثمارية. فمع تحوّل اليورو والجنيه الإسترليني إلى بدائل أكثر استقراراً، وتنامي أداء أصول الأسواق الناشئة، بات لزاماً إعادة النظر في توزيعات الأصول الدولية، ومتابعة تطورات السياسة النقدية الأميركية لحظة بلحظة.
المرحلة الأصعب
ويرى خبراء ومحللون أسواق مالية ، إن المرحلة الأصعب في الحرب التجارية «تم تسعيرها بالفعل»، مع توقعات بأن تشهد الأيام المقبلة إما تمديدًا جديدًا للمهلة أو التوصل إلى حلول واتفاقات جزئية، رغم احتمالية ظهور توترات مشابهة لتلك التي طالت العلاقات الأميركية الكندية مؤخرًا.
وأوضحوا أن أسواق المال تتفاعل حاليًا مع حالة التفاؤل أكثر من القلق، وهو ما يظهر في الارتفاعات القياسية التي تسجلها المؤشرات الأميركية، وأرجعوا ذلك إلى مجموعة من العوامل، أبرزها: سياسات خفض الضرائب التي ينتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتوقعات الأسواق بخفض الفائدة الأميركية اعتبارًا من سبتمبر المقبل، وترجيحات قوية بإمكانية تغيير رئيس الاحتياطي الفيدرالي وعدم التمديد له، إذ بدأ ترامب فعليًا بالبحث عن بديل لجيروم باول بعد انتهاء ولايته.
مستقبل الدولار
وحول مستقبل الدولار الأميركي، أشار الخبراء إلى أن العوامل الضاغطة عليه تتزايد، وعلى رأسها: عجز الميزانية الكبير، وفاتورة خفض الضرائب الهائلة التي تبلغ نحو 4.5 تريليون دولار، وقالوا: نتوقع أن يواصل الدولار تراجعه على المدى المتوسط، مع استهداف مستويات عند 95 نقطة، وربما لاحقًا 92.5 نقطة على مؤشر الدولار مقابل سلة العملات».
و الأسواق رغم تأكيدات الفيدرالي بأنه «غير متسرع» في خفض الفائدة، فإنها بدأت فعليًا تسعير أول خفض في سبتمبر، مدفوعة بإشارات غير مباشرة من المسؤولين، إلى جانب التراجع في بعض البيانات الاقتصادية، وتسعير هذه المعاملات بالدولار يجعل أي تراجع في قيمته ينعكس مباشرة على تكاليف الاستيراد، واستقرار العملات المحلية، خصوصًا في الدول التي تربط عملاتها به أو تعتمد عليه تجاريًا وتمويليًا.
وفي العالم العربي، يُشكّل الدولار حجر الزاوية في المنظومة الاقتصادية والمالية، سواء على مستوى الاحتياطات، أو الواردات، أو العقود التجارية، غير أن السنوات الأخيرة شهدت تصاعدًا في المؤشرات المقلقة المرتبطة بالدولار، أبرزها فقدانه حوالي 11 % من قيمته خلال النصف الأول من عام 2025، في أسوأ أداء نصف سنوي له منذ 1973، إلى جانب تراجع الثقة الدولية وانتشار استخدام عملات بديلة.
يرتبط الاقتصاد العربي بالدولار بشكل وثيق، ما يجعل أي تراجع في قيمته يترك أثرًا مباشرًا على الاستقرار المالي والتجاري في المنطقة، ومنذ اتفاق «البترودولار» في السبعينيات، ربطت معظم دول الخليج صادراتها النفطية بالدولار، وهو ما جعل العملات الخليجية تُربط به رسميًا ، أما الدول غير النفطية مثل مصر، وتونس، والمغرب، فترتبط به بشكل غير مباشر من خلال تسعير الواردات، والاعتماد على القروض الدولية، والتحويلات، وتسديد الالتزامات الدولية.
وتحتفظ البنوك المركزية العربية بمئات المليارات من الدولارات، أغلبها على هيئة سندات خزانة أميركية، فيما تسعر أغلب الصادرات والواردات بهذه العملة، ما يجعل الاقتصاد العربي مكشوفًا لأي تقلبات فيها، وفقًا لصندوق النقد الدولي، يشكّل الدولار حوالي %59 من الاحتياطات الرسمية العالمية، ما يجعل تراجعه أو غموض مستقبلة ، مصدر تهديد مباشر لقوة هذه الاحتياطات.
تأثر الشركات والافراد
حالة الغموض في مستقبل الدولار وعدم استقراره إلى هذا الحد يؤثر بشكل كبير على الشركات العاملة في العالم العربي ، حيث تضطرب التكاليف ، لأن أغلب الشركات تعتمد على الاستيراد بالدولار، سواء للمواد الخام أو المعدات ، فتقلب سعر الصرف يربك الميزانيات، ويقلّص الهوامش، ويُضعف القدرة التنافسية ، وايضا تحدث خسائر في العقود ، فالمشاريع المرتبطة بعقود طويلة الأجل مقوّمة بالدولار، مثل قطاعي الطاقة والإنشاء، تواجه تراجعًا في العوائد الحقيقية، مما قد يؤدي إلى خسائر أو الحاجة لإعادة التفاوض.
و تراجع الدولار قد يُحسن قدرة بعض الشركات المُصدّرة على جذب المشترين الدوليين بأسعار منخفضة، لكنه في الوقت نفسه يُضعف الأرباح عند التحويل للعملة المحلية، خصوصًا إن كانت التكاليف محلية أو التمويل خارجيا، كما أن التضخم المستورد ينتقل إلى الأسواق العربية بسبب ربط العملات المحلية بالدولار (شترستوك)
ورغم الطابع الكلي لقضية الدولار، فإن المواطن العادي يتأثر بها بطرق ملموسة ، فإن الأسر التي تعتمد على تحويلات المغتربين بالدولار تفقد جزءًا من قدرتها الشرائية حينما تنخفض قيمته، والادخار بالدولار يصبح أقل أمانًا عندما تتراجع قيمته الفعلية رغم ثباته الرقمي ، وفي بعض الدول، الرواتب تُصرف بالدولار أو تُربط به ، ومع انخفاض قيمته أو تذبذبها ، تقل القوة الشرائية دون تغيير الرقم ،فضلا عن أن تكلفة السلع المستوردة بالدولار، خصوصًا الغذاء والدواء والطاقة، ترتفع، مما يؤثر على ميزانية الأفراد ، و تقلب الدولار يُربك قرارات الاستثمار، والتعليم، والسفر، ويخلق حالة من انعدام اليقين.
إجراءات وقائية
على الدول العربية، وشركاتها، وأفرادها، الاستعداد لواقع جديد عبر خطوات عملية، أما بالنسبة للحكومات ، فيجب تنويع الاحتياطيات، عبر تعزيز حصة اليورو، اليوان، الذهب، أو وحدات السحب الخاصة، وتوقيع اتفاقيات مع شركاء تجاريين تعتمد على العملات المحلية للحد من الاعتماد على الدولار ، وتعزيز الإنتاج المحلي: الاستثمار في القطاعات الحيوية مثل الغذاء، الطاقة، والدواء لتقليل الاستيراد وتقوية الاستقلال الاقتصادي.
أمافيما يخص الشركات ، فعليها ضرورة التحوط المالي، باستخدام أدوات مالية مثل العقود الآجلة، وصناديق العملات، والحسابات متعددة العملات لحماية الأرباح من تقلبات السوق ، و تعديل العقود طويلة الأجل لتشمل سلال عملات بدلًا من الاعتماد الأحادي على الدولار ، و الابتعاد عن الاعتماد الحصري على الدولار في الشراء أو الاقتراض الخارجي.
وعلى الافراد ايضا التحوط من التقلبات والمستقبل الغامض للدولار ، وذلك يتم من خلال توزيع الادخار على عدة أصول مثل العملات البديلة، الذهب، العقارات، أو شهادات الاستثمار ، ومراقبة التحويلات: متابعة أسعار الصرف واختيار الوقت المناسب لتحويل الأموال، أو الاحتفاظ بجزء منها محليًا ، وضبط الإنفاق: ترشيد الاستهلاك وتحسين التخطيط المالي لمواجهة ارتفاع الأسعار وتقلبات السوق.