في خطوة وصفت بأنها واحدة من أكثر قرارات إصلاح أنظمة التقاعد جرأة في أوروبا، أعلنت الحكومة الدنماركية رسميًا عن رفع سن التقاعد إلى 70 عامًا بحلول عام 2040، لتُصبح بذلك الدولة صاحبة أعلى سن تقاعد قانوني في القارة الأوروبية.
القرار يأتي ضمن خطة شاملة لمواجهة الضغوط المتزايدة على نظام التقاعد الوطني، في ظل تراجع معدلات المواليد وارتفاع متوسط العمر المتوقع، الذي تجاوز في الدنمارك اليوم 81 عامًا.
وتبرر الحكومة هذه الخطوة بأنها ضرورية لضمان استمرارية النظام المالي للتقاعد دون إرهاق ميزانية الدولة، خصوصًا مع تنامي عدد كبار السن مقارنة بالقوى العاملة الشابة.
لكن القرار لم يمر بهدوء، حيث أثار موجة من الجدل والرفض في الأوساط النقابية والمجتمعية. وانتقدت النقابات العمالية القرار باعتباره غير عادل لشرائح واسعة من العمال، خاصة أولئك الذين يعملون في مهن تتطلب مجهودًا بدنيًا ولا يمكنهم الاستمرار فيها حتى هذا السن المتقدم.
أوروبا تسير في نفس الاتجاه.. هل هو توجّه عالمي؟
الدنمارك ليست وحدها التي تسلك هذا الطريق، فعدد من الدول الأوروبية الكبرى بدأت بالفعل تنفيذ خطط مشابهة لرفع سن التقاعد، وسط تحديات سكانية واقتصادية متشابهة.
فرنسا: رفعت مؤخرًا سن التقاعد من 62 إلى 64 عامًا، وسط احتجاجات حاشدة شهدتها المدن الفرنسية اعتراضًا على القرار الذي اعتبره البعض تقليصًا لحقوق العمال.
ألمانيا: بدأت تدريجيًا في تنفيذ خطة للوصول بسِن التقاعد إلى 67 عامًا بحلول عام 2031، في محاولة لتقليص الضغط على صناديق المعاشات.
بريطانيا: حددت عام 2028 موعدًا رسميًا للوصول إلى سن تقاعد يبلغ 67 عامًا، مع وجود مقترحات قيد الدراسة لرفعه لاحقًا إلى 71 عامًا بحلول منتصف القرن.
الصين: ومع أن الوضع مختلف ديموغرافيًا، بدأت الصين أيضًا في زيادة تدريجية لسن التقاعد، ليصل إلى 63 عامًا للرجال، وما بين 55 و58 عامًا للنساء، بهدف مواجهة آثار التراجع الحاد في معدلات الخصوبة وشيخوخة السكان.
كيف يؤثر رفع سن التقاعد على الأسر والاقتصاد؟
رفع سن التقاعد لا يقتصر على كونه قرارًا إداريًا بل يتعداه ليؤثر بشكل مباشر على الحياة اليومية للأسر، وسلوكها الاقتصادي والاجتماعي.
الادخار والاستقرار المالي
يتطلب رفع سن التقاعد من الأسر إعادة تخطيط للادخار طويل الأمد. في ظل تأخر الوصول إلى المعاش، يضطر الكثيرون إلى الاحتفاظ بجزء أكبر من دخلهم لتأمين مستقبلهم، ما قد يؤدي إلى تراجع في الإنفاق الاستهلاكي العام، ويؤثر على النشاط الاقتصادي الداخلي.
الصحة مقابل الإنتاج
بالنسبة لكثير من العاملين في القطاعات اليدوية أو الخدمات التي تتطلب جهدًا بدنيًا، فإن مواصلة العمل حتى سن السبعين يشكل عبئًا صحيًا كبيرًا.
وقد يؤدي هذا إلى ارتفاع معدل الإصابة بالأمراض المرتبطة بالإرهاق أو إلى التقاعد المبكر، وبالتالي الضغط على أنظمة الرعاية الصحية.
فرص العمل وتوازن السوق
مع بقاء الأفراد لفترات أطول في سوق العمل، قد تقل فرص التوظيف للشباب، مما يخلق حالة من التزاحم الوظيفي ويؤثر على تجديد القوى العاملة، كما أن كبار السن قد يواجهون تحديات متعلقة بالتمييز العمري أو عدم القدرة على مواكبة التحولات التقنية السريعة.
هل هناك بدائل أكثر توازنًا؟
يرى خبراء أن الإصلاحات في أنظمة التقاعد يجب أن تكون أكثر مرونة وعدالة، فبدلاً من رفع سن التقاعد بشكل موحد، يمكن التفكير في خيارات تقاعد تدريجي أو جزئي، إلى جانب توفير برامج دعم وتدريب لإعادة تأهيل كبار السن للعمل في وظائف أقل إجهادًا بدنيًا.
كما أن إدخال أنظمة تقاعد اختياري مبكر، لمن يستطيع تحمل عبء التقاعد دون معاش حكومي، قد يخفف من الضغوط ويوفر فرصًا للآخرين.
رغم وجاهة الحجج الاقتصادية وراء رفع سن التقاعد، إلا أن النجاح الحقيقي لهذه السياسات يرتبط بمدى عدالتها الاجتماعية، فالتحدي ليس فقط في تمويل صناديق التقاعد، بل في الحفاظ على كرامة الإنسان في سنوات عمله الأخيرة، وضمان حياة صحية ومتوازنة له ولأسرته.