في الجزء الأول من هذا المقال، تحدثت
عن أهمية أن يكون لمصر رؤية واقعية لما سيكون عليه الحال في 2030، وهو هدف لا يقل أهمية عن وضع رؤية لما يراد
تحقيقه في البلاد بحلول 2030. فعلى الرغم
من تأييدي لرؤية مصر القومية من أجل المستقبل، إلا أنّ ما أناقشه هنا يتمثل في
ضرورة أن تتسم هذه الرؤية بالمرونة مع الأخذ في الاعتبار ظروف الاقتصاد العالمي
اليوم، وكذلك العوامل والتغيرات والعلاقات الجديدة والتي تشكل النتائج المستقبلية،
وجميعها معاً هو ما يُحدد مدى نجاح خارطة الطريق التي وضعتها مصر حتى 2030 وما بعده.
إنّ قدرة مصر على استخدام التكنولوجيا
ودمج التغيرات الحادثة في عالم البيانات والتطبيقات الرقمية في كافة العمليات
التشغيلية ونماذج الأعمال والمهارات، يأتي في مقدمة العوامل التي ستساعد البلاد
على تلبية احتياجاتها التنموية المتنوعة خلال الخمس عشر سنة القادمة.
فعلى سبيل المثال: يُعد توفير المزيد من الوظائف وفرص
العمل للقاعدة المتنامية من السكان من أهم التحديات التي تواجه مصر. ولكن لن تتمكن المصادر التقليدية
للتوظيف في الأسواق الناشئة، ومنها المصانع الإنتاجية الكبيرة للمنتجات منخفضة
التكلفة، من توفير عدد كاف من الوظائف في المستقبل. وعلى الرغم من أنّ بعض التقارير غير الدقيقة الصادرة في
الولايات المتحدة الأمريكية ترى أنّ السبب الرئيسي لفقدان الوظائف في أمريكا هو
المنافسة العالمية، إلا أنّ التقارير الدقيقة ذات المصداقية العالية تؤكد أنّ
الاتجاه لاستخدام التطبيقات الأوتوماتيكية في العمليات الإنتاجية هو السبب الرئيسي في الاستغناء عن حوالي 80% من العمالة اليدوية في أمريكا على
مدار الـ 30 سنة
الأخيرة. فالآلات
كانت وستظل هي الأداة الرئيسية لتأدية الأعمال اليدوية الروتينية التي تتسم
بالتكرار بدلاً من البشر.
ومن العوامل التي لا تقل أهمية عن
التحول الأوتوماتيكي في العمليات الإنتاجية هو سرعة وشكل هذا التحول في
المستقبل. وتعتمد
ثورة التحول الأوتوماتيكي في مجال التصنيع والعمليات التشغيلية المتنوعة خلال السنوات
القادمة على زيادة قدرة الآلات على التعلم، والاعتماد على تطبيقات الحوسبة السحابية
والبيانات الضخمة، وهو ما يعني أن استبدال الآلات مكان البشر سيسير بوتيرة سريعة
للغاية خلال السنوات العشر القادمة. ولتأكيد ذلك، فقد صدر مؤخراً تقرير في المملكة المتحدة يشير إلى
أنّ 46% من الوظائف
في اسكتلندا سيتم استبدالها بالآلات والتطبيقات الآلية بحلول عام 2030.
إنّ استبدال البشر بالآلات في الأعمال
الروتينية، واستبدال البشر بالذكاء الاصطناعي في اتخاذ القرارات، يمثل توجهاً عالمياً خلال الخمس عشر سنة
القادمة، وبالتالي أصبح ذلك عاملاً أساسياً لابد أن تتضمنه الخطط الاستراتيجية
للتنمية في مصر عاجلًا وليس آجلًا.
إنّ الأسواق العالمية التي كانت تعتمد
من قبل على التكامل الرأسي من خلال اندماج المؤسسات العالمية الكبرى مع بعضها
البعض، أصبحت الآن أكثر مرونة واقبالاً على التكامل الأفقي من خلال التوسع في
شراكات وعلاقات عمل جديدة مع الشركات الصغيرة والناشئة. ويمثل النوع الأخير من الشراكات شكل هياكل الأعمال الذي يجب
على مصر تشجيعها من خلال تقديم تمويلات حكومية غير ضخمة لذلك.
من ناحية أخرى، يُعد تشجيع الكوادر
الجديدة العاملة في تلك المجالات المبتكرة على التعليم والثقافة وتنمية المهارات
في مقدمة العوامل المؤدية للنجاح
ورفع المزايا التنافسية. ويجب على
المجتمعات أيضاً استيعاب الظواهر الاقتصادية الجديدة مثل الاقتصاد الذي يعتمد على
عقود العمل غير التقليدية، والتعلم المستمر، ومحافظ الوظائف وغيرها، كما يجب على
الشباب ألا يعتبر الوظيفة الدائمة في القطاع الحكومي أو العام هي غاية ما يتمناه.
ومن أجل الحفاظ على قدرة مصر في جذب الاستثمارات على المدى الطويل،
يجب توفير الأطر القانونية والتشريعية وتقديم الحوافز المطلوبة لجذب هذه الفرص
وقطاعات الأعمال الجديدة، للحفاظ على استمرارها في السوق.
من ناحية أخرى يمكننا انتقاء
المبتكرين من كل القطاعات الاقتصادية، بما في ذلك القطاعين العام والخاص وشركات
التكنولوجيا والخدمات الكبيرة منها والصغيرة. فالابتكار يبدأ دائماً بالسياسات والتشريعات، ويجب ألا يقتصر
على الشركات الخاصة فقط.
أما بالنسبة للتمويل، خاصة رأس المال
المُغامر، فيمثل عاملاً رئيسياً للابتكار. فمع غياب التمويل لا يوجد ابتكار.
وفي مصر، يُعد توافر رأس المال المغامر من التحديات
الكبيرة، مقارنة بمراكز الابتكار العالمية الرئيسية في العالم مثل وادي السيليكون
في أمريكا أو مراكز الابتكار في لندن أو برلين. إنّ الشركات والحكومات على حد سواء يفضّلون الاستثمار في
الأعمال والأصول الآمنة التي تحقق لهم تدفقات نقدية كبيرة (خاصة في مجال الاستثمار العقاري)،
وهو المجال الذي يبرعون في فهمه جيدا.
ولكن حتى تتمكن اقتصاديات المنطقة من الحفاظ على القدرات التنافسية لها،
يجب على القطاعين العام والخاص التعاون في خلق منظومة متكاملة تتضمن التمويل
ومشاركة المخاطر والأطر التشريعية المرنة، بحيث تدعم هذه المنظومة حركة الابتكار
وتوفر رؤوس أموال حقيقية ذات شهية عالية على المخاطر الاستثمارية.
إنّ صُنّاع القرار في مصر يدركون هذه
الاحتياجات، وقاموا فعلياً باتخاذ عدد من الخطوات العملية لتوفير بيئة جاذبة
للاستثمار. إلا أنّ
قائمة مطالب مستثمري القطاع الخاص مازالت تتضمن العديد من العناصر الأخرى مثل
إبرام اتفاقيات توريد مع الحكومة بشكل أكثر سهولة وشفافية، وضمانات سيادية ثنائية
ومتعددة الأطراف، وشروط ائتمان امتيازية، واجراءات أكثر سرعة للإعلان عن عدم
القدرة على سداد الديون/ أو إعادة
الهيكلة، وهياكل تشريعية للشراكات في مجال الاستثمارات الخاصة، بالإضافة للسياسات
الضريبية الواضحة والثابتة والسريعة.
إنها قائمة طويلة من المطالب، ولكنها
فرصة ممتازة لمصر للإسراع بخططها التنموية لكي تتمكن من لعب دوراً حقيقياً في الاقتصاد العالمي بحلول
عام 2030.