يبدو أن الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم مع تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد في أواخر عام 2019 لن تتلاشى قريبا، بعد أن بات العالم يخرج من أزمة ليدخل أخرى. فمع انحسار الجائحة وبدء تعافي الاقتصاد العالمي أواخر العام الماضي وأوائل العام الحالي جاء الغزو الروسي لأوكرانيا يوم 24 فبراير الماضي وما أعقبه من اضطراب شديد في سلاسل الإمداد للعديد من السلع الأساسية وبخاصة الطاقة ليضع عقبة كبيرة في طريق التعافي العالمي.
وقبل أن يستوعب العالم تداعيات الغزو الروسي والعقوبات الغربية التي استهدفت موسكو، تفجرت في العديد من دول العالم موجة احتجاجات عمالية للمطالبة بزيادة الأجور وتحسين ظروف العمل لمواجهة الارتفاعات القياسية في الأسعار وهو ما يراه المحلل الاقتصادي براندن موراي ضربة جديدة لآمال التعافي الاقتصادي العالمي.
ويقول موراي في تحقيق نشرته وكالة بلومبرج للأنباء أن كل موجة من موجات اختناق في سلاسل الإمداد التي ضربت الاقتصاد العالمي خلال جائحة كورونا يكون لها سبب ظاهر مختلف. ففي البداية كانت المشكلة تتمثل في نقص الحاويات المستخدمة في نقل البضائع في أواخر 2020 وذلك بسبب تخزين المستهلكين الأمريكيين لكل شيء بدءا من ألعاب الحدائق وحتى الأجهزة المكتبية.
وفي عام 2021 طلبت الشركات كميات كبيرة من مكونات الإنتاج والمنتجات لتجنب نفاد المخزون لديها، في الوقت الذي وقعت فيه عدة حوادث مربكة مثل جنوح سفينة الحاويات العملاقة إيفر جيفن في قناة السويس مما أدى إلى توقف الملاحة فيها لنحو أسبوع في آذار/مارس 2021.
وجاء النصف الأول من العام الحالي ومعه حالة عدم يقين إضافية نتيجة قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا وعودة الصين إلى فرض إجراءات إغلاق صارمة لمنع انتشار فيروس كورونا المستجد، ومع بداية النصف الثاني من العام ظهرت مشكلة أخرى تهدد بالمزيد من الاختناقات في سلاسل الإمداد وهي الاضطرابات العمالية.
ويقول برندن موراي إنه بعد سنوات من تجميد الأجور خلال جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية، يطالب العمال الآن بزيادة أجوره وتحسين ظروف عملهم. كما أن ارتفاع معدلات التضخم عززت إصرار العمال على زيادة الأجور، وبخاصة في قطاعات الخدمات اللوجيستية وصناعات الخط الأمامي الأخرى التي أبقت على النشاط الاقتصادي أثناء الجائحة. كما أن ارتفاع معدلات التضخم أدت إلى تراجع الدخول الحقيقية لملايين العمال وبخاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا.
ومازال العمال يحصلون على إجازات مرضية ويحتاجون إلى وقت إضافي للتعافي من الإصابة بفيروس كورونا المستجد. كما أن موانئ شمال أوروبا من بين الأشد اختناقا في العالم، نتيجة تفشيات فيروس كورونا وتعدد الإضرابات العمالية.
وتشير بيانات وكالة بلومبرج إلى اتساع نطاق الاختناقات في الموانئ في أوروبا من أنتويرب ببلجيكا إلى هامبورج في ألمانيا، حيث تفشل شبكات النقل البري سواء الشاحنات أو بالسكك الحديدية المتعثرة نتيجة الإضرابات، في مواكبة تدفق الشحنات إلى الموانئ.
في الوقت نفسه، يمكن أن يؤدي التهديد بالإضراب في أي ميناء كبير إلى التكدس، حيث يمتد طابور السفن خارج ميناء سافاناه بولاية جورجيا الأمريكية على سبيل المثال. ويرجع سبب هذا التكدس جزئيا إلى محاولة المستوردين تغيير مسار السفن القادمة من آسيا، لتجنب أي اضطراب عمالي محتمل في أكثر موانئ أمريكا ازدحاما على سواحل لوس أنجليس. وقد انتهى عقد العمل الجماعي لعمال الموانئ على الساحل الغربي الأمريكي يوم الجمعة الماضي، ومازالت المحادثات بين العمال وأصحاب العمل بشأن العقد الجديد مستمرة.
وخارج ميناء سافاناه الأمريكي تقف 31 سفينة حاويات مما أدى إلى امتداد فترة انتظار السفينة لدخول الميناء إلى ما بين 8 و10 أيام. وفي منطقة نيويورك تمتد فترة الانتظار للسفن إلى 20 يوما.
ومن المحتمل أن تكون أوضح صور الاحتجاجات العمالية في مطارات الولايات المتحدة وأوروبا، حيث ألغت شركات الطيران آلاف الرحلات الجوية بسبب نقص عمال الخدمات الأرضية، وأطقم الضيافة و الطيارين. وكان المفترض أن يساعد موسم السفر الصيفي القوى صناعة الطيران والنقل الجوي إلى حالتها الطبيعية، لكن الاحتجاجات العمالية قطعت الطريق أمام التعافي.
في الوقت نفسه فإن هذه الاضطرابات قد تمتد إلى سوق الشحن الجوي، والذي عانى من الصعوبات الشديدة خلال العامين الماضيين لآن إلغاء الكثير من الرحلات الجوية قلص سعات الشحن الجولي للبضائع التي كان يتم شحنها على متن طائرات الركاب. وكما يوضح مؤشر دريوري أير فرايت للشحن الجوي، فإن أسعار الشحن الجوي انخفضت عن أعلى مستوياتها لكنها مازالت أكثر من ضعف مستواها قبل الجائحة.
والأمر المهم الذي يجب ترقبه هو مستويات أسعار الشحن الجوي عندما ينتهي العمل بالقواعد الأوروبية المؤقتة التي تسمح للطائرات بوضع البضائع في قمرات الركاب الخالية في وقت لاحق من الشهر الحالي. كما أن أي إضراب في موانئ الساحل الغربي الأمريكي سيؤدي إلى زيادة الطلب على خدمات نقل البضائع جوا وهو ما يعني ارتفاعا جديدا لأسعار الشحن الجوي، ليضاف عبء جديد على كاهل الاقتصاد العالمي الذي مازال يبحث عن مسار واضح للتعافي.