بدأ المهندسون في الولايات المتحدة الأمريكية، في نهاية عام 2020، بتنفيذ مشروع تقدّر قيمته بنحو 100 مليون دولار لمنع برج الألفية في سان فرانسيسكو من الميل والغرق بشكل أكبر في الأرض.
وكان المستأجرون، في المبنى الفخم المؤلف من 58 طابقًا اكتشفوا قبل أربع سنوات، أن البرج انغرز لنحو 16 إنشًا في الأرض خلال العقد الماضي، غير أن المعضلة تكمن في أن أمر البرج ما هو إلا جزء من مشكلة واسعة النطاق، لا تنحصر بمنطقة خليج سان فرانسيسكو، فكثير من المدن حول العالم تغرق تحت ثقل التطوير المدني، فيما يرتفع منسوب البحار.
وتسعى دراسة جديدة إلى تقييم مدى إسهام وزن البيئة المبنية في غرق المدن، وهي ظاهرة جغرافية تعرف بـ"انخساف الأرض".
وعلى الرغم من أن التطوير المدني لا يسهم إلا بجزء بسيط من هذه الظاهرة التي تعود إلى عدّة أسباب أخرى، إلا أن الدراسة التي نشرت في دورية " AGU Advances" تتوقع أن يزداد هذا التأثير فيما ينتقل المزيد من الناس للسكن في المدن، بالتالي المدن المكتظة سوف تغرق أسرع بالمقارنة مع المناطق التي تضمّ منشآت أقل.
وتناول خبير الزلازل في معهد المسح الجيولوجي الأميركي توم بارسونز منطقة خليج سان فرانسيسكو كمثال على هذا التأثير، فبحسب تقديره، يبلغ الوزن الإجمالي لكافة المباني في سان فرانسيسكو حوالي 1.3 تريليون كيلوغرام. ومن شأن ذلك وحده أن يكون قد تسبب بانخساف الأرض بحوالي 80 مليمتر، أي أكثر من ثلاث إنشات، مع مرور الزمن ونموّ المدينة.
وأقرّ بارسونز، بأن هذا التقدير بمثابة حدّ أدنى، مشيرًا إلى أنه "من المستحيل احتساب كلّ غرض في المدينة، ولكنني فكرت بأن كلّ غرض في المدينة هو موجود في داخل المباني"، واعتمد صيغة لاحتساب هذا الرقم استناداً إلى البيانات العامة المتوفرة حول مخططات ارتفاع وقاعدة كلّ مبنى في منطقة خليج سان فرانسيسكو، ووضع افتراضات حول مكونات هذه المباني ومحتوياتها.
ولا تشمل حسابات بارسونز منشآت ثقيلة أخرى مثل الطرقات والجسور والمساحات المعبدة، كما لا تحتسب البشر.
ومع ذلك، فإن الضغط الناجم عن الأبنية وحدها كفيل بالتسبب في انخساف الأرض في المنطقة.
وكانت دراسات سابقة قد أشارت إلى أن مدينة سان فرانسيسكو المكتظة التي يقدر عدد سكانها بنحو 7 ملايين نسمة، تنخسف حاليًا بمعدل حوالي 2 مليمتر سنويًا، ويصل هذا المعدل إلى 10 مليمترات في بعض المناطق. كما تواجه المدينة خطر فيضانات مدمرة مع توقع ارتفاع منسوب مياه البحر بنحو قدم بحلول العام 2050 وبنحو ثلاثة أقدام بحلول نهاية القرن.
وفيما تعتبر العوامل مثل ضخّ المياه الجوفية وانجراف التربة وتحرك الصفائح "التكتونية" المسبب الرئيسي لانخساف الأرض، إلا أن دراسة بارسونز تناولت منطقة سان فرانسيسكو من أجل إضاءة الدور الصغير والفعّال الذي يلعبه التطوير المدني على هذا الصعيد. وقال بارسونز "في المناطق التي تشهد قدرًا كبيرًا من التطوير المدني مثل وسط مدينة سان فرانسيسكو، يرتفع الضغط كثيرًا ضمن منطقة صغيرة. وذلك يكفي للتسبب بتشوه الغلاف الصخري للأرض وانخسافه، حتى لو كان ذلك بمجرد مليمترات قليلة في العام.
كما أن معظم مباني المدينة مشيدة على التربة التي تنضغط بسهولة أكبر، ما يؤدي إلى انخساف الأرض أكثر مع الوقت.
وفي العادة، يأخذ المهندسون هذا التأثير في عين الاعتبار لدى إعداد خططهم. وقال بارسونز إنه "ما إن يتم تشييد المبنى، فمن المعلوم أنه سينخسف. ويمكن أن ينخسف من 8 إلى 10 مليمترات على الفور".
وتابع "مع الوقت، يمكن للمباني، بالأخص المباني الكبيرة والثقيلة أن تستمر في الانخساف إلى ما لا نهاية، فيما تبدأ التربة تحتها في الزحف والانجراف، بالأخص إذا كانت التربة طينية".
وربما يكون تأثير كلّ هذا الضغط نحو الأسفل صغيراً بالمقارنة مع العوامل الأخرى المساهمة في انخساف الأرض، إلا أن بارسونز يحذر من أن ثقل المنشآت سيزداد بشكل ضخم حول العالم مع استمرار السكان في النزوح نحو المدن، التي بدورها سوف تشهد المزيد من التطوير المدني من أجل التكيف مع هذه الزيادة السكانية. وبحسب بعض التقديرات، فإن 70% من سكان العالم سوف يعيشون في تجمعات مدنية كبيرة بحلول العام 2050.
وقال بارسونز "لا يشكل الأمر مصدر قلق كبير حالياً بالمقارنة مع أمور أخرى، ولكن المسألة ستكبر فيما نستمر في مراكمة المزيد من المنشآت، بالأخص في الدول التي تمر بطور النموّ، حيث قد يسجل عدد الأشخاص الذين ينتقلون إلى المناطق الساحلية ارتفاعاً بنسبة 50%، وذلك ستتبعه أعمال بناء".
وتشير الدراسة، إلى مدينة لاغوس في نيجيريا، حيث يتوقع أن يتضاعف عدد السكان البالغ 14 مليون نسمة في خلال العقود الثلاثة المقبلة، مع العلم أن المدينة تنخسف اليوم بمعدل يتراوح بين 2 و87 مليمتر (أو 3.4 إنش) في العام. وتشهد المناطق الساحلية في المدينة "حيث شيدت مبان ثقيلة على رواسب غير مدعمة جيداً" أكبر معدلات الانخساف.
وفي المدن المطورة، لم يعد بالإمكان اتخاذ أي إجراءات تذكر من أجل معالجة تأثير التطوير المدني. ففي إندونيسيا مثلاً، ضغط القادة المحليون باتجاه نقل العاصمة من جاكرتا من أجل تخفيف الضغوط على المدينة المكتظة، مع ذلك لا تزال المدينة الأسرع انخسافاً في العالم. وقد أدى الضخ المفرط للمياه الجوفية إلى انخساف المدينة بنحو 10 مليمتر في السنة، وفي بعض المناطق الساحلية حيث يواجه الأشخاص الأكثر فقرًا مشاكل فيضانات مستمرة، تنخسف الأرض بنحو 25 مليمتر في السنة.
وقال برسونز "إذا كنت تعتزم أن تطور منطقة ما، لا يمكنك فعل شيء لحلّ هذه المشكلة، فالجاذبية تدفع بالأشياء نحو الأسفل، ولا يمكنك مقاومتها".
ومع ذلك، يمكن القيام ببعض الإجراءات من أجل التخفيف من الانخساف، فعلى سبيل المثال يمكن للمكان الذي تختاره للبناء ونوع الأرض التي تبني عليها أن يلعبا دورًا مهمًا على المدى البعيد، كما أن المدن عليها أن تعيد النظر في تركيز البناء قرب الساحل أو على الأراضي المستصلحة التي هي عرضة للانخساف.
كذلك، فإن المدن مدعوة لإعادة النظر في نظم تصريف المياه، فحين يعبّد المطورون الطرق فوق التربة، فهم غالباً ما يحولون مياه الصرف بعيداً عن مصادرها التقليدية في الأنهار، نحو أكبر جسم مائي كبير قريب، سواء كان محيطاً أو خليجاً. بالتالي فإن "الكثير من الانخسافات التي تتراكم عادة في الدلتا تتحوّل مباشرة نحو المحيط". ويؤدي ذلك إلى انضغاط التربة وتسريع غرق المدينة.
أمّا الحلّ، فيمكن في التفكير المسبق في كلّ هذه الأمور، وإلا "فيما تزداد المدن كثافة، وتزداد المباني ارتفاعاً، قد تطرأ المشاكل في المستقبل".