أزمة ديموغرافية تهدد ركائز الاقتصاد.. جيل "التخلي" الكوري يسجل أدنى معدل خصوبة على مستوى العالم


الجريدة العقارية الاثنين 01 ديسمبر 2025 | 03:40 مساءً
أزمة ديموغرافية تهدد ركائز الاقتصاد
أزمة ديموغرافية تهدد ركائز الاقتصاد
مصطفى عبد الله

تُواجه كوريا الجنوبية، إحدى أبرز "النمور الآسيوية" وأكثر دول العالم تقدماً، أزمة وجودية حقيقية تتجاوز حدود التحديات الاجتماعية لتضرب صميم استدامتها الاقتصادية.

هذه الأزمة تتجسد في ظاهرة "جيل التخلي" (Sam-po generation)، الذي اختار بوعي التخلي عن أسس الحياة التقليدية كرد فعل بنيوي عميق على ضغوط النظام الاقتصادي والاجتماعي القاسي.

ماذا يعني "جيل التخلي"؟

تعود جذور هذه الظاهرة إلى مصطلح "سامبو" (Sam-po) الذي ظهر في كوريا الجنوبية عام 2011، ليصف جيلاً من الشباب المثقل بالديون وصعوبة تأمين فرص عمل مستقرة تحقق الطموحات.

ويعني المصطلح في بدايته التخلي عن ثلاثة أمور رئيسية:

-المواعدة أو العلاقات العاطفية

-الزواج.

-الإنجاب.

لكن هذا التخلي توسع ليصبح رمزاً لانسحاب أعمق من متطلبات الحياة الحديثة، ووصل إلى عشرة مجالات، بما في ذلك التخلي عن امتلاك المنزل، والعلاقات الاجتماعية القريبة، وحتى عن الأمل والرغبة في الحياة في ظاهرة تُعرف بـ "وانبو".

جحيم "جوسون".. الرفاهية المنهارة

يُرجع المحللون تفاقم الأزمة إلى تداعيات الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، التي دفعت الدولة والشركات الكبرى إلى إعادة هيكلة سوق العمل على أسس "المرونة العالمية".

هذه الهيكلة أنتجت:

سوق عمل هش: تزايدت فيه العقود قصيرة الأجل، وتفاقمت الضغوط القاسية على أداء العاملين الشباب.

انهيار حلم الرفاه: شعرت الأجيال الأصغر سناً بأن الدولة تخلت عن مسؤوليتها في بناء شبكة دعم اجتماعي حقيقية، وألقت بالعبء الأكبر لتوفير حياة كريمة على كاهل العائلة.

هذا الواقع المرير دفع بعض الكوريين إلى إطلاق تسمية ساخرة على واقعهم، وهي "جحيم جوسون"، مقارنة لاذعة بين كوريا الحديثة المتقدمة ومملكة جوسون الإقطاعية القديمة، للتعبير عن الشعور بأن الظروف المعيشية لا تتناسب مع التقدم الاقتصادي الهائل.

تداعيات اقتصادية خطيرة على التجدد السكاني

في محصلة مباشرة لهذه الضغوط، تسجل كوريا الجنوبية اليوم أدنى معدل خصوبة في العالم، إذ لا يتجاوز 0.75 طفل لكل امرأة وفقاً لأحدث الإحصاءات.

ويُعزى هذا التراجع التاريخي إلى:

-ضغوط العمل الشديدة في مجتمع شديد التنافسية.

-عبء الأمومة الذي تتحمله المرأة وحدها غالباً.

كما ظهرت حركات نسوية متطرفة كرد فعل، أبرزها حركة "فور بي" (4B)، التي تبنت شعارات تعبر عن رفض شامل للعلاقات مع الرجال (لا مواعدة، لا زواج، لا معاشرة، لا إنجاب).

أزمة وجودية وتراجع النمو

تُواجه كوريا الجنوبية حالياً أزمة وجودية حقيقية تتمثل في الشيخوخة المتسارعة، حيث تجاوزت نسبة البالغين 65 عاماً 20% من إجمالي عدد السكان.

ويبلغ عدد سكان البلاد اليوم حوالي 51.6 مليون نسمة، لكن التقديرات تشير إلى معدل نمو سنوي سلبي يبلغ −0.1%، ما يعني أن عدد السكان ينقص تدريجياً عاماً بعد عام.

يرفض الجيل الجديد منظومة الأخلاق التي سادت بعد الحرب، والقائمة على مبدأ "التضحية المؤجلة" (اعمل اليوم بجد ليجد أبناؤك مستقبلاً أفضل)، إذ يرى الشباب أن التضحية لم تعد تضمن الأمن والحياة الكريمة لهم حتى لو فعلوا كل ما طُلب منهم.

خلاصة القول، فإن أزمة "جيل التخلي" في كوريا الجنوبية تُعد جرس إنذار عالمي، وخصوصاً للاقتصادات الناشئة، بأن النمو الاقتصادي لا يمكن أن يستدام بمعزل عن توفير شبكات دعم اجتماعي حقيقية وظروف عمل مستقرة تضمن للأجيال الجديدة القدرة على بناء مستقبل كريم، وإلا سيكون الثمن أزمة ديموغرافية تهدد ركائز الاقتصاد برمته.