في خطوة توصف بأنها الأكثر رمزية منذ عقود، أحرق نحو ثلاثين من مقاتلي حزب العمال الكردستاني أسلحتهم عند مدخل كهف جبلي في منطقة دوكان شمال غرب السليمانية في إقليم كردستان العراق، فاتحين صفحة جديدة في صراعٍ استمر لما يقارب نصف قرن مع الدولة التركية، وهو التطور التاريخي الذي جاء بعد إعلان الحزب في مايو الماضي حل جناحه المسلح استجابة لدعوة علنية من زعيمه المسجون عبد الله أوجلان، في محاولة لنقل مطالبه القومية من ساحة القتال إلى ميدان السياسة.
ورافق المراسم، التي جرت تحت حماية مشددة وبحضور ممثلين من الاستخبارات التركية والعراقية ومسؤولين من حكومة الإقليم وقادة من حزب الحركة الديمقراطية للشعوب الموالي للأكراد، مروحيات تحلق في سماء المنطقة، بينما اصطف المقاتلون - نصفهم من النساء - لإلقاء بنادقهم الهجومية وأحزمتهم القتالية في مرجل كبير أُضرمت فيه النار وسط أجواء من الترقب والرسائل المتبادلة.
تسليم سلاح العمال الكردستاني
قرأت بيس هوزات، إحدى أبرز قيادات الحزب، بيانًا أكدت فيه أن هذه الخطوة تعبير عن الإرادة الحرة لفتح صفحة جديدة، ليُعاد البيان ذاته باللغة الكردية تحت ظل صور أوجلان التي غطت مدخل الكهف، في مشهد بدا وكأنه إعلان رسمي لانتقال الصراع من الجبال إلى قاعات السياسة.
وتفتح هذه الخطوة، رغم رمزيتها المحدودة، الباب على أسئلة عميقة: هل يطوي تسليم السلاح صفحة العنف نهائيًا ويمنح جنوب شرق تركيا فرصة الخروج من دوامة الدم؟ لكن الأكيد أن الصراع الذي أسفر عن مقتل أكثر من 40 ألف شخص وأثقل كاهل الاقتصاد التركي بآلاف المليارات من الدولارات لن يُمحى ببيان واحد أو شعلة نار في كهف، بل يتطلب مسارًا طويلًا لإعادة دمج المسلحين السابقين في الحياة المدنية والسياسية بضمانات حقيقية، وهنا يبرز التحدي الأكبر: كيف ستتجنب أنقرة أخطاء تجارب السلام السابقة التي انهارت سريعًا تحت وطأة الاستقطاب والقمع وعودة العمليات العسكرية؟
أردوغان يخدم أجندته الانتخابية
داخليًا، لا يخفي الرئيس رجب طيب أردوغان رغبته في استثمار هذه اللحظة سياسيًا، ساعيًا لترسيخ صورته كمهندس سلام ينهي أحد أكثر الملفات حساسية في التاريخ التركي الحديث، فمع اقتراب استحقاقات انتخابية جديدة، يأمل أردوغان أن يُقدّم نفسه للناخبين كزعيم نجح في تحقيق ما عجزت عنه حكومات سابقة، وأن يسحب البساط من تحت أقدام المعارضة التي طالما انتقدته بسبب الملف الكردي، متهمةً إياه بالتناقض بين الدعوات للسلام وحملات القمع التي طالت قيادات الأكراد مثل صلاح الدين دميرتاش.
لكن هذا الاستثمار السياسي قد ينقلب إلى عبء إذا لم يُترجم نزع السلاح إلى اندماج فعلي في المشهد السياسي، فحزب الشعوب الديمقراطي، الذي يمثل الأكراد في البرلمان، تعرّض لحملات إغلاق واعتقالات واسعة منذ انهيار مفاوضات 2015، ما يجعل الأكراد يتطلعون اليوم إلى ضمانات قانونية تحمي أي انتقال إلى السياسة من سيف الاتهامات بتقويض وحدة الدولة.
وقد دعا أوجلان نفسه في مقطع فيديو نادر، البرلمان التركي إلى تشكيل لجنة للإشراف على عملية السلام وتقديم إطار قانوني لإدماج مقاتليه السابقين.
تفكيك حزب العمال الكردستاني
أما خارجيًا، فإن لهذا التطور انعكاسات أبعد من حدود تركيا، فحلفاء أنقرة في واشنطن وبروكسل يراقبون بقلق وحذر مدى قدرة تركيا على ضبط حدودها الجنوبية حيث تتمركز فصائل كردية سورية ترى فيها أنقرة امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، ويأمل حلف شمال الأطلسي أن يُسهم تفكيك الجناح المسلح في تخفيف التوترات الأمنية في شمال سوريا وفتح قنوات تفاهم جديدة مع القوى الغربية.
ووصف مسؤولين أتراك، الخطوة بأنها مرحلة لا رجعة فيها، إلا أن التاريخ القريب يذكر الجميع بأن مساعي التسوية انهارت مرارًا في لحظات مفصلية، وأن إخماد بندقية واحدة لا يعني بالضرورة إطفاء جذوة أيديولوجية متجذرة منذ عقود.





