تشهد مصر موجة متصاعدة من انهيار العقارات القديمة، خاصة في المناطق العتيقة بالقاهرة والإسكندرية، وهو ما أثار حالة من القلق بين المواطنين والسلطات المحلية على حد سواء. ويرتبط جزء كبير من هذه الأزمة بقانون الإيجار القديم، الذي ألقى بعبء صيانة العقارات على الملاك، في وقت لا تتناسب فيه القيمة الإيجارية الثابتة مع التكاليف الحقيقية للترميم والصيانة.
العقارات الآيلة للسقوط
ويؤكد خبراء التنمية المحلية أن غياب الصيانة الدورية وتراكم الإهمال، إضافة إلى الخلافات القانونية بين الملاك والمستأجرين، أدى إلى تحول العديد من العقارات إلى "قنابل موقوتة" تهدد حياة السكان. وتعمل لجان المنشآت الآيلة للسقوط تحت إشراف المحافظين على دراسة الحالات واتخاذ قرارات بالترميم أو الهدم الجزئي أو الكلي، في ظل حاجة ملحة لتدخل تشريعي وتنفيذي عاجل لإنقاذ الأرواح والحفاظ على الاستقرار العمراني.
ملف العقارات الآيلة للسقوط
أكد الدكتور رضا فرحات، خبير التنمية المحلية، أن ملف العقارات الآيلة للسقوط في مصر ليس ظاهرة طارئة أو مفاجئة، بل هو ملف ممتد منذ سنوات طويلة، ويرتبط بعدة عوامل متراكمة في مقدمتها قدم عدد كبير من المباني وغياب الصيانة الدورية لها، خاصة في المناطق القديمة داخل المحافظات.
وأوضح فرحات في تصريحات خاصة لـ العقارية، أن العقارات القديمة تحديدًا أصبحت بحاجة ملحّة إلى الترميم والمتابعة الفنية المستمرة، بل واتخاذ قرارات حاسمة بشأنها، سواء بالصيانة أو التنكيس أو الهدم الجزئي أو الكلي، حال ثبوت وجود مشكلات إنشائية تمثل خطرًا على الأرواح، مؤكدًا أن ثقافة التعامل مع العقار في المجتمع المصري تمثل أحد جذور الأزمة.
وأشار إلى أن هناك فارقًا جوهريًا بين العقارات المملوكة للدولة، مثل مشروعات الإسكان الاجتماعي أو المساكن الشعبية، حيث تتحمل الدولة مسؤولية الصيانة والمتابعة، وبين العقارات المملوكة للأفراد والخاضعة لقانون الإيجار القديم، والتي تمثل الإشكالية الأكبر في هذا الملف.
قانون الإيجار القديم ألقى بعبء الصيانة والترميم على المالك
وأضاف أن قانون الإيجار القديم ألقى بعبء الصيانة والترميم على المالك، في وقت لا تتناسب فيه القيمة الإيجارية الثابتة مع تكاليف الصيانة المرتفعة، ما دفع عددًا كبيرًا من الملاك إلى الامتناع عن إجراء أي أعمال ترميم، في ظل خلافات متراكمة مع المستأجرين، وهو ما أدى إلى ترك هذه العقارات فريسة للإهمال حتى أصبحت مهددة بالانهيار.
وأوضح خبير التنمية المحلية أن القانون ينظم التعامل مع هذه الحالات، حيث تصدر الأحياء قرارات بالترميم أو الهدم الجزئي أو الكلي وفقًا للحالة الإنشائية للعقار، من خلال لجان المنشآت الآيلة للسقوط المشكلة في كل محافظة، والتي تضم مهندسين متخصصين وتعمل تحت إشراف المحافظ المختص.
وأشار إلى أن القانون رقم 119 لسنة 2008 أجاز التظلم من قرارات الترميم أو الهدم خلال 15 يومًا، أمام لجنة تظلمات يرأسها قاضٍ، وتضم مدير مديرية الإسكان ومهندسين استشاريين، إلا أن اللجوء المتكرر للتقاضي في كثير من الحالات يؤدي إلى تعطيل تنفيذ القرارات، خاصة في ظل عدم توافر أماكن بديلة للمقيمين.
الملاك يتعمدون ترك العقارات دون صيانة
ولفت فرحات إلى أن بعض الملاك يتعمدون ترك العقارات دون صيانة، بهدف صدور قرار هدم كلي، ما يؤدي إلى إنهاء العلاقة الإيجارية واستعادة الأرض وإعادة البناء من جديد، وهو ما يمثل ثغرة قانونية تسهم في تفاقم الأزمة.
وأكد أن هناك سببًا آخر لا يقل خطورة يتمثل في المباني المخالفة، خاصة تلك التي تجاوزت الارتفاعات المقررة في التراخيص، مما أدى إلى تحميل الأساسات بأحمال إنشائية تفوق قدرتها، وهو ما ظهر بوضوح في بعض المحافظات، وعلى رأسها الإسكندرية، حيث شهدت عدة حالات ميل وانهيار لعقارات مرتفعة بُنيت بالمخالفة للقانون.
وأشار إلى أن الدولة بدأت بالفعل في التحرك الجاد للتعامل مع هذا الملف، حيث شكّل رئيس مجلس الوزراء لجانًا متخصصة على أعلى مستوى، بالتنسيق بين وزارتي الإسكان والتنمية المحلية، لحصر العقارات الآيلة للسقوط، ووضع جدول زمني واضح للتعامل معها، سواء بالإزالة أو الترميم أو توفير بدائل آمنة للسكان حفاظًا على أرواحهم.
خطة قومية عاجلة تقوم على إنشاء قاعدة بيانات دقيقة
وشدد فرحات على أن الحل الجذري للأزمة يتطلب خطة قومية عاجلة تقوم على إنشاء قاعدة بيانات دقيقة ومنظمة لكل عقارات الدولة، إلى جانب دراسة إنشاء صندوق خاص لصيانة المباني، تتولى الدولة من خلاله أعمال الترميم على نفقة المالك، مع تحصيل مستحقاتها بآليات قانونية لاحقة.
كما دعا إلى تشديد العقوبات الخاصة باتحادات الشاغلين، خاصة في العقارات الخاضعة لقانون الإيجار، لضمان التزام جميع الملاك بسداد تكاليف الصيانة الدورية، لا سيما للمرافق المشتركة مثل المصاعد وشبكات المياه والصرف الصحي.
واختتم خبير التنمية المحلية تصريحاته بالتأكيد على أن الدولة بدأت بالفعل في التعامل مع الملف بشكل مؤسسي، وأن الفترة المقبلة ستشهد تعديلات تشريعية وإجراءات تنفيذية أكثر حسمًا، بهدف إنهاء أزمة العقارات الآيلة للسقوط، وحماية أرواح المواطنين، وتحقيق الاستقرار العمراني في مختلف المحافظات.
مصر تواجه أزمة حقيقية في ملف إدارة العمران
ومن جانبه كشف الدكتور حمدي عرفة، أستاذ الإدارة الحكومية والمحلية وخبير البلديات الدولية، عن أرقام وصفها بـ«الخطيرة»، مؤكدًا أن مصر تواجه أزمة حقيقية في ملف إدارة العمران، في ظل وجود عشرات الآلاف من العقارات المهددة بالانهيار في أي لحظة داخل المحافظات الـ27.
وأوضح عرفة في تصريحات خاصة لـ العقارية، أن إحصائيات رسمية صادرة عن المركز القومي لبحوث البناء تشير إلى وجود 121 ألف عقار في خطر داهم، بينما أكد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن عدد العقارات الآيلة للسقوط يبلغ نحو 98 ألف عقار على مستوى الجمهورية، في ظل تزايد ملحوظ في معدلات الوفيات الناتجة عن انهيار المباني، مقابل ما وصفه بـ«صمت البلديات وضعف الرقابة المحلية».
وأضاف أستاذ الإدارة الحكومية، أن ملف البناء المخالف شهد انفجارًا غير مسبوق خلال السنوات التسع الماضية، حيث تم رصد 3 ملايين و240 ألف عقار مخالف، إلى جانب مليون و900 ألف حالة تعدٍ على الأراضي الزراعية، وفق بيانات مشتركة لوزارتي الزراعة والتنمية المحلية، معتبرًا أن هذه الأرقام تعكس فشلًا إداريًا وتشريعيًا في التعامل مع منظومة العمران.
سوء إدارة ملف تراخيص البناء
وانتقد عرفة ما وصفه بـ«سوء إدارة ملف تراخيص البناء»، مؤكدًا أن البيروقراطية وتعقيد الإجراءات ساهما بشكل مباشر في زيادة المخالفات وارتفاع الأدوار غير المرخصة، وخلق علاقة مباشرة بين البناء العشوائي وتوسع المناطق غير المخططة، محمّلًا غالبية قيادات الإدارات المحلية مسؤولية تفاقم الأزمة نتيجة ضعف المتابعة وغياب الرؤية القانونية والإدارية.
وطالب أستاذ الإدارة المحلية جميع المحافظين الـ27 بفتح ملفات الفساد داخل الإدارات الهندسية المسؤولة عن تراخيص البناء، مؤكدًا أن التواجد الإعلامي للمحافظين في مواقع الانهيارات بعد وقوع الكوارث «لن يحل أزمة 98 ألف عقار آيل للسقوط»، ما لم يتم التعامل مع جذور المشكلة.
كما دعا عرفة إلى إيقاف نقل وندب حملة الدبلومات (تجارة وصنايع) للعمل داخل الإدارات الهندسية بالوحدات المحلية، معتبرًا ذلك أحد أوجه الخلل المؤسسي، خاصة في ظل أن نسبة المهندسين بتلك الإدارات لا تتجاوز 8%، بينما يشغل الباقون وظائف فنية لا تتناسب مع طبيعة الملف العمراني المعقد.
إزالة المباني المقامة خارج الأحوزة العمرانية
وأشار إلى أن المحكمة الدستورية العليا حسمت الجدل القانوني بشأن إزالة المباني المقامة خارج الأحوزة العمرانية، مؤكدة أن قرارات الإزالة ذات طبيعة إدارية وليست جنائية، وأن إزالة المخالفات يجب أن تتم على نفقة المخالف، مع التأكيد على التزام الدولة بالتخطيط العمراني السريع للقرى والمدن وإصدار الأحوزة العمرانية المعتمدة لمنع ظهور عشوائيات جديدة.
وفي ختام تصريحاته، طرح الدكتور حمدي عرفة خطة استراتيجية تنفيذية شاملة للقضاء على ظاهرة انهيار العقارات والبناء المخالف، تضمنت:
تعديل قانون البناء الموحد رقم 119 لسنة 2008 لما يحتويه من ثغرات وبيروقراطية تساهم في زيادة المخالفات.
تعديل قانون الإدارة المحلية رقم 43 لسنة 1979 لتوضيح الاختصاصات المشتركة مع وزارة الإسكان.
الإسراع بتعديل قانون المجتمعات العمرانية رقم 58 لسنة 1979 الذي مر عليه أكثر من 44 عامًا.
نقل جميع الإدارات الهندسية التابعة للمراكز والأحياء والوحدات القروية إلى مديريات الإسكان باعتبارها الجهة المختصة فنيًا.
تشريع قانون جديد يقر الحبس على المقاول أو المهندس وصاحب العقار في حال تنفيذ أو السماح بإنشاءات مخالفة.
وأكد عرفة أن تطبيق هذه التوصيات بشكل فوري وجاد يمثل خط الدفاع الأخير لحماية أرواح المصريين، محذرًا من أن تجاهل الأزمة سيؤدي إلى مزيد من الضحايا وكوارث عمرانية متكررة.
تابعوا آخر أخبار العقارية على نبض