في خضم الصراع العالمي بين الولايات المتحدة والصين على المعادن النادرة التي تشكل أساس الصناعات العسكرية والتكنولوجية المتقدمة، تبرز مصر كلاعب صاعد في هذا الميدان، مستندة إلى ثروة طبيعية هائلة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط تُعرف بـ "الرمال السوداء"، والتي يمكن أن تغير قواعد اللعبة في هذه الحرب الاقتصادية العالمية.
الرمال السوداء.. كلمة السر المصرية
بحسب بيانات مركز دعم واتخاذ القرار المصري، تمتلك مصر أكبر احتياطي للرمال السوداء في العالم، والتي تُعد رواسب شاطئية سوداء كثيفة تأتي من منابع النيل وتتراكم على السواحل نتيجة اصطدام مياه النيل بمياه البحر المتوسط، مشكلةً كثباناً رملية غنية بالمعادن النادرة والثقيلة.
لسنوات طويلة، أُهملت هذه الثروة المصرية وسط محاولات استغلال محدودة، حيث تم تصدير الرمال كمواد خام بأسعار زهيدة، وتعرضت أحيانًا للسرقة والتهريب، قبل أن تبدأ الدولة المصرية في استغلال هذه الثروة بشكل منظم عبر مشروعات استراتيجية.
احتياطي ضخم يمتد بطول الساحل
تمتد الرمال السوداء على طول الساحل المصري من مدينة رشيد شرقاً وحتى رفح غرباً بطول 400 كيلومتر، وتنتشر في 11 موقعاً رئيسياً. ووفق المنتدى الاستراتيجي للسياسات العامة ودراسات التنمية، يبلغ الاحتياطي الجيولوجي للرمال السوداء في مصر نحو 1.3 مليار متر مكعب، منها 600 مليون متر مكعب في منطقة رشيد، و300 مليون متر مكعب في دمياط، و200 مليون متر مكعب في بلطيم، و200 مليون متر مكعب في شمال سيناء.
من الإهمال إلى الاستثمار
شهد أبريل 2016 تأسيس الشركة الوطنية للرمال السوداء بمدينة البرلس بكفر الشيخ، كأول شركة مصرية مخصصة لاستخراج هذه الثروة، بتكلفة تقديرية بلغت ملياري جنيه مصري، تلاها في 2018 وضع حجر الأساس لمصنع فصل الرمال السوداء على مساحة 80 فداناً في البرلس باستثمارات تجاوزت مليار جنيه.
صناعة استراتيجية.. وأرباح واعدة
توقع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن تسهم صناعة الرمال السوداء في تحقيق مكاسب كبيرة للاقتصاد المصري، إذ ستوفر نحو 50 مليون دولار من الواردات سنوياً، مع تعزيز الصادرات بحوالي 100 مليون دولار، بما يعزز الميزان التجاري لمصر ويقلل الاعتماد على الاستيراد في صناعات حيوية.
ما الذي تحتويه الرمال السوداء؟
تضم الرمال السوداء المصرية نحو 41 عنصراً معدنياً يدخل في إنتاج أكثر من 49 صناعة استراتيجية تشمل صناعة هياكل الطائرات، والصواريخ، والغواصات، والمركبات الفضائية، والهواتف الذكية، والسيارات الكهربائية، ما يجعلها مصدراً مهماً في ظل التوجه العالمي نحو الطاقة النظيفة والصناعات التكنولوجية.
وتحتوي الرمال السوداء على ستة معادن ثقيلة رئيسية وهي: الإلمنيت، الروتيل، المغنتيت، الليكوكسين، الزيركون فائق النعومة، ورمل الزيركون، والتي تعتبر مصدراً غنياً للتيتانيوم والزركونيوم والهافنيوم والمغنيسيوم والثوريوم واليورانيوم.
المعادن النادرة.. عماد الصناعات المتقدمة
يعد التيتانيوم ضرورياً لصناعة هياكل الطائرات والغواصات والمركبات الفضائية، بينما يعد الزركونيوم عنصراً رئيسياً في إنتاج الطاقة النووية، إذ يُستخدم في كسوة قضبان الوقود داخل المفاعلات النووية.
أما الهافنيوم فيدخل في صناعة الإلكترونيات والطائرات، ويُستخدم المغنيسيوم في بناء الطائرات والأجهزة الفضائية، في حين يُعد الثوريوم واليورانيوم من العناصر الأساسية لإنتاج الطاقة النووية كوقود نووي.
مصر كلاعب دولي محتمل
وسط التنافس الشرس بين الصين والولايات المتحدة على تأمين سلاسل التوريد للمعادن النادرة، تأتي الرمال السوداء المصرية لتقدم بديلاً استراتيجياً للدول التي تبحث عن مصادر موثوقة لهذه المعادن دون الاعتماد الكامل على الأسواق الآسيوية.
ومع سعي مصر لتعزيز استثماراتها في هذا القطاع الحيوي ضمن خطط التنمية المستدامة ورؤية مصر 2030، تبدو الرمال السوداء فرصة ذهبية لتعزيز مكانة القاهرة كمركز إقليمي لإنتاج المعادن النادرة، وتلبية احتياجات الصناعات المحلية والدولية، في وقت تشتعل فيه المنافسة العالمية حول هذه الموارد الاستراتيجية التي تشكل عصب الاقتصاد الصناعي والتكنولوجي الحديث.