في كل عام، ومع تباشير الربيع وتفتح الأزهار، يتردد في الأجواء لحن عذب وصوت ساحر يأخذنا في رحلة بصرية وسمعية مبهجة.
إنها أغنية "الدنيا ربيع" للفنانة سعاد حسني، التي أصبحت بمثابة النشيد غير الرسمي لاستقبال هذا الفصل الجميل، ورفيقًا لا غنى عنه في احتفالات المصريين بعيد شم النسيم.
لكن كيف استطاعت هذه الأغنية أن تترسّخ في الوجدان المصري، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بهذا العيد الفرعوني العريق، الذي يتميز بتقاليده الخاصة وألوانه المبهجة ومذاقه الفريد للفسيخ والرنجة؟
"الدنيا ربيع".. سيمفونية تحتفي بعيد شم النسيم
صدرت أغنية "الدنيا ربيع" عام 1946، وهي من كلمات الشاعر الكبير أحمد رامي وألحان الموسيقار المبدع محمد القصبجي، واستطاعت هذه الثلاثية الفنية أن تقدم عملًا متكاملًا يجسد روح الربيع بكل ما فيه من جمال وإشراق وتجدد.
تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية ساحرة، ترسم بأوتارها وألحانها لوحة فنية بديعة للطبيعة، وهي تستيقظ من سباتها الشتوي، ثم يأتي صوتالفنانة سعاد حسني الرقيق والعذب، ليُضفي على الكلمات روحًا وحياة، ويأخذ المستمع في رحلة عبر صور شعرية بديعة.
تتغنّى كلمات الأغنية بجمال الطبيعة في فصل الربيع؛ حيث "الدنيا ربيع والجو بديع"، والأزهار تتفتح بألوانها الزاهية، والأغصان تتمايل برقة، والطير يغرد بألحانه الشجية.
إنها دعوة صريحة للاستمتاع بجمال اللحظة والانطلاق في أحضان الطبيعة الخلابة، وكأن رامي والقصبجي قد استشرفا العلاقة الوثيقة التي ستربط هذه الأغنية بعيد شم النسيم، الذي يحتفي بدوره بجمال الطبيعة وتجدد الحياة.
"شم النسيم" احتفال فرعوني بالخصوبة والتجدد يتردد صداه في "الدنيا ربيع"
يعود الاحتفال بشم النسيم إلى العصور الفرعونية القديمة؛ حيث كان يُقام في بداية فصل الربيع، رمزًا لتجدد الحياة وازدهار الطبيعة والخصوبة، وقد ارتبط هذا العيد بالعديد من الطقوس والعادات التي ما زال بعضها باقيًا حتى يومنا هذا، مثل الخروج إلى الحدائق والمتنزهات، وتلوين البيض، وتناول أطعمة تقليدية خاصة.
تتلاقى روح "الدنيا ربيع" مع جوهر احتفالات شم النسيم في العديد من الجوانب؛ فكلاهما يحتفي بجمال الطبيعة وانبعاث الحياة بعد فترة الشتاء.
الأغنية تدعو إلى الاستمتاع بـ"الجو البديع" والألوان الزاهية، وهو ما يتجسّد في خروج العائلات المصرية إلى المساحات الخضراء المفتوحة، والاحتفاء بألوان الربيع المبهجة، كما أن فكرة التجدد والبدايات الجديدة، التي يحملها فصل الربيع تت resonate بقوة مع رمزية شم النسيم كعيد، يمثّل بداية دورة جديدة من الحياة والخصوبة.
الفسيخ والرنجة.. مذاق خاص يكمل بهجة الربيع والاحتفال
لا يكتمل الاحتفال بشم النسيم في مصر إلا بوجود طبق الفسيخ والرنجة على المائدة، هذه الأطعمة ذات الرائحة النفاذة والمذاق المميز أصبحت جزءًا لا يتجزأ من تقاليد هذا العيد، وتعود جذورها أيضًا إلى العصور القديمة.
يُعتقد المؤرخون أن تناول الأسماك المملحة والمجففة كان مرتبطًا بعادات غذائية قديمة في مصر، ربما كوسيلة لحفظ الأسماك لفترات طويلة. ومع مرور الوقت، ارتبطت هذه الأطعمة تحديدًا باحتفالات شم النسيم. هناك تفسيرات مختلفة لهذه العلاقة، منها ما يربطها بطقوس دينية قديمة أو برموز تتعلق بالخصوبة والبركة.
وعلى الرغم من الرائحة القوية التي قد لا يستسيغها البعض، إلا أن الفسيخ والرنجة يحظيان بشعبية كبيرة في شم النسيم، ويُعتبر تناولهما جزءًا أساسيًا من بهجة الاحتفال. يجتمع الأهل والأصدقاء لتناول هذه الأطعمة المميزة، مصحوبة بالبصل الأخضر والخس والليمون، في أجواء من المرح والاحتفال بقدوم الربيع.
"الدنيا ربيع" والفسيخ والرنجة.. مزيج فريد من البهجة والتقاليد
قد يبدو للوهلة الأولى أن لا رابط مباشر بين أغنية رومانسية تحتفي بجمال الطبيعة وبين أطعمة مالحة ذات رائحة قوية، لكن بالنظر إلى السياق الثقافي والاجتماعي، نجد أن "الدنيا ربيع" أصبحت بمثابة الخلفية الصوتية المثالية لاحتفالات شم النسيم بكل ما تتضمنه من مظاهر البهجة والتجدد والاحتفاء بالتراث.
عندما تستمع إلى صوت أم كلثوم وهي تتغنى بجمال الربيع، وتتخيل الألوان الزاهية للأزهار والنسيم العليل، فإن هذا الشعور بالبهجة يتكامل بشكل طبيعي مع أجواء الاحتفال بشم النسيم. والخروج إلى الطبيعة وتناول الفسيخ والرنجة يصبح جزءًا من هذا المشهد الاحتفالي المتكامل.
إن رائحة الفسيخ والرنجة، التي قد تكون غير محببة للبعض، ترتبط في الذاكرة الجمعية للمصريين بذكريات سعيدة للاحتفال والتجمعات العائلية في يوم شم النسيم، وعندما يتردد صدى "الدنيا ربيع" في الخلفية، فإن هذا يعزز من الشعور بالبهجة والارتباط بهذه التقاليد العريقة.
جيل بعد جيل.. "الدنيا ربيع" ترافق شم النسيم
على مر العقود، حافظت أغنية "الدنيا ربيع" على مكانتها كأيقونة مرتبطة بشم النسيم، جيل بعد جيل يستمع إلى هذه الأغنية في هذا اليوم المميز، ويجد فيها تعبيرًا عن مشاعر الفرح والاحتفاء بالربيع، ولقد تجاوزت هذه الأغنية حدود الزمان والمكان لتصبح جزءًا من الهوية الثقافية المصرية وذاكرة هذا العيد السنوي.
في صباح يوم شم النسيم، تفتح النوافذ وتُشغل الإذاعات والتلفزيونات على صوت سعاد حسني، وهي تشدو بـ"الدنيا ربيع"، وتصاحب هذه الأغنية العائلات، وهي تتهيأ للخروج إلى الحدائق والمتنزهات، وتتردد كلماتها العذبة أثناء تناول وجبة الفسيخ والرنجة التقليدية، إنها بمثابة خيط ذهبي يربط بين الماضي والحاضر، ويذكرنا بتقاليدنا الجميلة واحتفالاتنا المبهجة.
يمكن القول إن أغنية "الدنيا ربيع" للفنانة سعاد حسني، لم تكن مجرد أغنية عابرة عن جمال فصل الربيع، بل تحوّلت بمرور الوقت إلى جزء لا يتجزّأ من احتفالات المصريين بعيد شم النسيم؛ فلقد استطاعت هذه الأغنية، بكلماتها العذبة وألحانها الساحرة وصوت كوكب الشرق، أن تعبر عن روح هذا العيد الفرعوني العريق، وأن ترافقه في كل مظاهره، من الخروج إلى الطبيعة الخلابة إلى تناول الأطعمة التقليدية المميزة كالفسيخ والرنجة.
وهكذا، يستمر "الجو البديع" و"الدنيا ربيع" في إسعاد المصريين في كل عام، مصحوبين بنغمات سعاد حسني ورائحة الفسيخ، التي تحمل عبق التاريخ والتقاليد.