تشكل وفاة بابا الفاتيكان لحظة حزينة لكنها تطلق في الوقت ذاته مرحلة انتقالية منظمة بدقة داخل الكنيسة الكاثوليكية. ورغم أن لكل بابا الحق في طلب تعديلات خاصة على جنازته ومراسم دفنه، فإن التقاليد المتوارثة منذ قرون تظل هي الإطار الحاكم للعملية برمتها. فمن لحظة الوفاة وحتى انتخاب خليفة جديد، تمر الكنيسة بسلسلة من الطقوس والإجراءات الراسخة في تاريخها.
تأكيد الوفاة وإعلانها
عند وفاة البابا، يتبع الفاتيكان بروتوكولا دقيقا لتأكيد الحدث الجلل. يتولى الكاميرلينغو، وهو مسؤول رفيع في الفاتيكان، مهمة التحقق الرسمي من وفاة البابا. ووفقا للتقاليد القديمة، كان ينادى على اسم البابا ثلاث مرات للتأكد من وفاته، لكن اليوم تستخدم الإجراءات الطبية الحديثة لتأكيد الوفاة بشكل رسمي.
وبعد التأكد، يقوم الكاميرلينغو بتحطيم الخاتم البابوي، وهو الخاتم الرسمي الذي يرمز إلى سلطة البابا، وذلك لمنع استخدامه مجددا.
عقب الإعلان الرسمي عن الوفاة، يبدأ العالم الكاثوليكي في الحداد. تنكس الأعلام، وتقرع أجراس الكنائس، وتدخل المجتمعات الكاثوليكية حول العالم في وقت من الصلاة والتأمل والترحم على روح القائد الروحي الراحل.
فترة الحداد ومراسم الجنازة
تطلق وفاة البابا فترة حداد تستمر تسعة أيام، تعرف باسم Novemdiales، وهي تقليد قديم متبع في الكنيسة الكاثوليكية. وخلال هذه الأيام:
يجهز جثمان البابا ويلبس الزي البابوي الكامل.
ينقل الجثمان إلى كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان، حيث يعرض للعامة، مما يتيح للمؤمنين وقادة العالم والشخصيات الرسمية تقديم واجب العزاء.
تقام قداسات خاصة وصلوات في الكنائس الكاثوليكية حول العالم، ترحما على روح البابا الراحل.
ورغم أن التقاليد التاريخية كانت تشمل تحنيط البابا أو استخراج بعض أعضائه للاحتفاظ بها كذخائر، فإن الباباوات في العصر الحديث ابتعدوا عن هذه الممارسات. وكان البابا فرنسيس قد أوصى بإقامة جنازة ودفن مبسطين، بعيدا عن مظاهر التكلف.
مراسم الدفن البابوي
عادة ما يدفن البابا بعد مرور أربعة إلى ستة أيام من وفاته. وتقام مراسم الجنازة في ساحة القديس بطرس، ويترأسها عميد مجمع الكرادلة، بحضور آلاف المشيعين من مختلف أنحاء العالم. وغالبا ما يوارى جثمان البابا في مغارات الفاتيكان الواقعة تحت كاتدرائية القديس بطرس، إلا أن بعض الباباوات اختاروا أماكن دفن مختلفة. وكان البابا فرنسيس، على سبيل المثال، قد أعرب عن رغبته في أن يدفن في كنيسة "سانتا ماريا ماجوري" في روما.
وبحسب التقليد، يدفن البابا في ثلاثة توابيت متداخلة: الأول من خشب السرو، والثاني من الزنك، والثالث من خشب الدردار. لكن البابا فرنسيس اختار نعشا أكثر بساطة، مصنوعا من الخشب والزنك فقط. ومن المعتاد أن يدفن البابا إلى جانب وثيقة تعرف باسم rogito، تتضمن ملخصا لحياته وخدمته البابوية.
انتخاب بابا جديد
يعرف مسار اختيار بابا جديد باسم "الكونكلاف"، ويبدأ عادة بعد أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع من مراسم الدفن. خلال هذه الفترة، يجتمع الكرادلة المؤهلون (أي من تقل أعمارهم عن 80 عاما) داخل كنيسة السيستينا بالفاتيكان في جلسات مغلقة للتصويت.
تغلق الكنيسة بالكامل لضمان السرية التامة، ويجري الكرادلة عدة جولات من الاقتراع، على أن يحصل المرشح على ثلثي الأصوات للفوز بالمنصب.
في حال لم ينتخب أحد، تحرق أوراق الاقتراع بمواد كيميائية تنتج دخانا أسود، دلالة على أن التصويت لم يسفر عن اختيار بابا جديد. أما في حال التوصل إلى انتخاب، فيطلق الدخان الأبيض من مدخنة الكنيسة، معلنا للعالم أن الكنيسة الكاثوليكية باتت لها قيادة جديدة.
وعندها، يختار البابا المنتخب اسما جديدا، ويخرج إلى شرفة كاتدرائية القديس بطرس ليعلن كبير الشمامسة العبارة الشهيرة: Habemus Papam، أي "لدينا بابا.
لا يمثل رحيل البابا مجرد انتقال في القيادة، بل يعد لحظة تأمل وتجديد في مسيرة الكنيسة الكاثوليكية. فالبابا الجديد سيكون له دور محوري في صياغة تعاليم الكنيسة، وتعزيز حضورها العالمي، وتوجيه علاقاتها الدبلوماسية.
ومع وجود أكثر من مليار كاثوليكي حول العالم، فإن هذا التغيير يحمل تأثيرا عميقا على حياة الملايين، ويسهم في رسم ملامح مستقبل العقيدة الكاثوليكية.
ورغم أن لكل بابا رؤيته الخاصة، تبقى التقاليد المرتبطة بوفاته وانتخاب خلفه طقوسا مقدسة تجسد استمرارية الكنيسة واستقرارها عبر العصور.