عندما نفكّر في تنشئة طفل محبّ للقراءة، كثيراً ما نتخيّل مشهداً لطفل مستلقٍ في سريره، يغمره ضوء خافت من المصباح الليلي، بينما يهمس أحد الوالدين بقصة تُروى بصوت دافئ.
ذلك المشهد يحمل سحراً خاصاً، بلا شك. لكن، وبعد أكثر من عشر سنوات من دراسة الكيفية التي يتحوّل بها الأطفال إلى قرّاء، وإجراء مقابلات مع خبراء في محو الأمية وتطوّر الطفل، تبيّن أنّ التحركات الفعّالة لتنشئة قارئ ناجح لا تقتصر على وقت النوم.
بل يمكن أن تحدث في أي وقت من اليوم، ضمن لحظات عابرة ومنسية تتخلّل الحياة اليومية للأسرة، وغالباً من دون كتاب بيد الطفل.
انتهاز فرص القراءة اليومية له أهمية بالغة، لأنّ إتقان القراءة في المرحلة الابتدائية يُعدّ مؤشراً قوياً على النجاح على المدى الطويل. الأطفال الذين يتمكّنون من القراءة بشكل جيّد في سنّ مبكرة، هم أكثر ميلاً للبقاء في المدرسة لفترة أطول، والحصول على وظائف أفضل، وتحقيق دخل أعلى مستقبلاً، بحسب CNBC.
فيما يلي خمسة أمور يفعلها الآباء الذين ينجحون في تنشئة قرّاء متميّزين، بطريقة مختلفة منذ المراحل الأولى:
يعاملون مناغاة الطفل كأنها محادثة حقيقية
قبل أن يتمكّن الطفل من الكلام، يبادر هؤلاء الآباء بالردّ عليه.
فعندما يصدر صغيرهم أصواتاً أو مناغاة، يستجيبون له بكلمات حقيقية، ينظرون في عينيه، يبتسمون، ويتفاعلون مع اللحظة. يخوضون "محادثات" مع الطفل، يصغون إلى أصواته ونظراته، ثم يردّون بكلمات وتشجيع، مع فترات توقف لانتظار ردّه.
هذا التفاعل العاطفي المتبادل، المعروف بأسلوب "البدء والردّ"، يشكّل أساساً لتطوّر اللغة وبناء بنية دماغية صحّية، بحسب مركز تطوير الطفل التابع لجامعة هارفارد.
كما أنّه يعزّز التعلّم إلى جانب الترابط العاطفي. إذ تُظهر الدراسات أنّ المحادثات الديناميكية والمتجاوبة خلال أول عامين من عمر الطفل تُمهّد الطريق لاكتساب مهارات القراءة المبكّرة، مثل تنمية المفردات التعبيرية والتعرّف على أسماء الحروف وأصواتها.
يطرحون الكثير من الأسئلة — وينتظرون الإجابة
يسأل هؤلاء الآباء أطفالهم أسئلة في كل مكان: في المنزل، داخل السيارة، أثناء القيام بالمهمات اليومية:
🔸 "ما هذا؟"
🔸 "هل رأيت الكلب؟"
🔸 "جاهز لتقليب الصفحة؟"
قد تبدو أسئلة بسيطة، لكنها فعّالة للغاية. ومع نموّ الأطفال، تصبح الأسئلة أكثر عمقاً وتعقيداً.
تُظهر الدراسات أنّ الأطفال الذين يطرح آباؤهم عليهم مزيداً من الأسئلة — ويمنحونهم الوقت للإجابة— يكتسبون مفردات أقوى ومعرفة أوسع في سنّ مبكرة. فهم يدركون ويستخدمون عدداً أكبر من الكلمات، ما ينعكس إيجاباً على مهارات الفهم القرائي لاحقاً.
القوّة لا تكمن فقط في طرح السؤال، بل في منح الطفل فرصة للتفكير والإجابة. فهنا يحدث التعلّم الحقيقي.
يتحدّثون عن أصوات الحروف، لا عن أسمائها أو أشكالها فقط
الآباء الأذكياء يحرصون على الحديث عن الحروف باستمرار. يلاحظونها في البيئة المحيطة —على اللافتات، في الوصفات، على القمصان— ويدعون أطفالهم لملاحظتها أيضاً. كما يعلّقون على ما يكتبونه أمامهم، مشيرين إلى كيفية تشكيل الحروف. ويبقون قطع الحروف المغناطيسية أو المكعبات في متناول الأطفال للعب اليومي.
لكنّ الفرق الجوهري هو: يتحدّثون مع أطفالهم عن الأصوات التي تُصدرها الحروف، وليس عن أشكالها أو أسمائها فقط.
وقد أظهرت دراسة أنّ الأهالي يستخدمون في المعدّل 14 نوعاً مختلفاً من الوسائل لتعريف أطفالهم بالحروف. لكن الأبحاث القائمة على الملاحظة تشير إلى أنّ حتى الآباء المهتمين لا يربطون بين الحروف وأصواتها في الأحاديث اليومية كما يظنون.
معرفة كيفية نُطق الكلمات من خلال أصوات حروفها أمر ضروري لتعلّم القراءة. الآباء الذين يتحدّثون عن أصوات الحروف يُساعدون أطفالهم على فهم أنّ الكتابة ما هي إلا حديث منطوق جرى تدوينه على الورق.
يلعبون بالكلمات
فكّر في العبارات مثل: "بيتر بايبر اختار قِطافاً من الفلفل المخلل" أو "هي تبيع الأصداف على شاطئ البحر".
الأغاني، والقوافي، وألعاب الكلمات، والجمل الصعبة النطق ليست مجرّد وسائل للترفيه — بل تساعد الأطفال على سماع الأصوات داخل الكلمات واللعب بها، وهي مهارة أساسية لتعلّم القراءة.
فقبل أن يتمكن الطفل من ربط الحروف بأصواتها، عليه أن يسمع هذه الأصوات بوضوح.
وهذا النوع من الاستماع لا يحدث تلقائياً. بل يتطور عندما يُمنَح الأطفال الكثير من الفرص اليومية والبسيطة لملاحظة الأصوات، ومقارنتها، وتقسيمها، ودمجها، وتبديلها.
يقتنصون اللحظات القابلة للقراءة على مدار اليوم
تُظهر الأبحاث وجود علاقة واضحة بين كمية القراءة المبكرة التي يمارسها الآباء مع أطفالهم، وبين مهارات المفردات والفهم القرائي لاحقاً.
لكن الآباء الذين يُربّون أنجح القرّاء وأكثرهم شغفاً بالكتب لا يخصّصون القراءة لوقت ما قبل النوم فقط. بل يشاركون أطفالهم الكتب والنصوص في أوقات الطعام، والاستحمام، وأثناء الانتظار — في أي وقت متاح.
وهذا يفتح المجال لمزيد من الساعات والفرص لتغذية المهارات اللغوية والقرائية أينما كنتم. حتى لافتات الشوارع، وقوائم الطعام، وملصقات المنتجات يمكن أن تكون مواد تعليمية مفيدة.
كما أن القراءة في وقتٍ مبكر من اليوم، عندما يكون الأطفال أكثر نشاطاً، غالباً ما تحفّز مزيداً من التفاعل، وطرح الأسئلة، وفرص التعلّم.
فكلما سمع الأطفال الكلمات، ورأوها، وتحدّثوا عنها، أصبحوا أكثر استعداداً لقراءتها لاحقاً.