بعد قرار إصدار «البنكنوت الجديد».. الرئيس السيسى يدشن مرحلة جديدة فى تاريخ النقد المصرى


الاحد 29 اغسطس 2021 | 02:00 صباحاً

تستعد جهات على أعلى مستوى بالتنسيق الكامل مع البنك المركزى لإطلاق مرحلة جديدة ودقيقة فى تاريخ النقد المصرى برؤى وسيناريوهات مستحدثة لم تشهدها الدولة على مدار الثلاثين عامًا الماضية، والتى بدأت خطواتها التنفيذية بالفعل على أرض الواقع من خلال منظومة الشمول المالى بهدف اتساع مظلة الجهاز المصرفى؛ لتشمل كافة المعاملات المالية بمختلف شرائح وفئات المجتمع بجميع الأنشطة الاقتصادية، والإلمام بكافة أطراف وتلابيب منظومة الاقتصاد غير الرسمى والتى ازدادت فى الآونة الأخيرة لتمتد إلى كثير وكثير من مناحى الأمور الحياتية والمعاملات الاقتصادية والمالية بمختلف معطياتها وأغراضها وأهدافها . 

ولعل تلك المرحلة التى بدأت بهدوء وبخطى مدروسة من خلال تطبيق فلسفة مصرفية واعية، تعكس ملامح استراتيجية ومنهج عمل لتنظيم أدوات وقواعد التعامل بالنقد المصرى، الذى وضع ملامحها بحنكة وحكمة لم تشهدها مصر من قبل السيد طارق عامر محافظ البنك المركزى المصرى والذى بادر قبل كل شىء بالتعرف على كافة الثغرات والتحديات التى تسفر عن معطيات حالة الفوضى والارتباك التى شهدتها مصر فى التعامل على الجنيه المصرى من كل صوب وحدب.

وبالقطع لم تأت رؤية طارق عامر صاحب النهضة التصحيحية للأوضاع النقدية من فراغ أو من مجرد رغبة فى إعلاء شأن هذا الكيان المؤسسى بل والسيادى، متمثلًا فى البنك المركزى المصىي، ولكنها جاءت نتاج رغبة حقيقية من القيادة السياسية فى المقام الأول والجهات صاحبة السيادة والبنك المركزى المصرى لإعادة تنظيم أوراق التعامل على النقد الأجنبى من جانب، ووضع قواعد وقوانين ترمم كافة الثغرات التى قد يلجأ إليها ضعاف النفوس أو غير المبالين بهموم هذا الوطن من جانب آخر، والتى قد تؤثر بشكل غير مدروس على استمرار مسيرة النهضة الاقتصادية الكبرى التى تطلقها وترعاها القيادة السياسية .

والأهم من كل هذا وذاك فقد أصبحت السياسة النقدية والإمساك بمفاتيح خزائنها الرسمية وغير الرسمية تمثل حجر الزاوية فى حماية الأمن القومى لمصر العظمى.. فكثير من التجارب على الساحة السياسية تؤكد أن إطلاق العنان من قبل بعض كبار المسئولين ببعض البلدان لحائزى النقود فى التعامل وفقًا لرغباتهم وأهوائهم ومصالحهم التى قد تتنافى مع حماية أوطانهم، ساهم سواء من بعيد أو قريب بشكل مباشر أوغير مباشر فى حالة الانهيار القصوى التى تعيشها بعض هذه البلدان.

ومن هنا جاءت البداية الحقيقية والخطوات التصحيحية من البنك المركزى المصرى بوصفه المسئول الأول عن إعادة تصحيح الأوضاع النقدية بالسوق المصرى برمته، وحماية كافة منافذ هذا الاقتصاد من دخول وخروج أو اختزان الأموال بطريقة غير مشروعة بعيدًا عن أعين ورقابة الأجهزة المعنية بما يضر بالاقتصاد القومى.

المنظومة الرقمية الجديدة

وقد كانت المنظومة الرقمية الجديدة بمثابة الخطوة الأولى فى المنهج التصحيحى للسياسة النقدية التى أطلقها محافظ البنك المركزى المصرى طارق عامر فى نوفمبر 2016 بإصداره للقواعد المنظمة لخدمات الدفع باستخدام الهاتف المحمول بهدف توسيع نطاق مقدمى الخدمة لتشمل مكاتب البريد وفروع الشركات متناهية الصغر والجمعيات الأهلية للوصول لأكبر عدد ممكن من المواطنين، وتقديم جميع أنواع خدمات الدفع والتحصيل الإلكترونى داخل مصر، بجانب تقديم خدمات مالية جديدة عن طريق الهاتف المحمول، مثل صرف الرواتب، وتحصيل الفواتير، وتحصيل أقساط التمويل متناهى الصغر، بالإضافة إلى المدفوعات الحكومية، وهو ما يأتى تماشيًا مع توجهات الدولة والتى تعمل جاهدة على تعزيز الشمول المالى فى مصر من خلال عدة محاور أبرزها إنشاء المجلس القومى للمدفوعات، الذى تم إنشاؤه بموجب القرار الجمهورى رقم 89 لسنة 2017، برئاسة رئيس الجمهورية، حيث يتضمن المجلس 16 عضوًا منهم رئيس مجلس الوزراء ومحافظ البنك المركزى والوزارات المعنية بالدولة، ويختص المجلس بدعم تقليل استخدام أوراق النقد خارج القطاع المصرفى وتحفيز استخدام الوسائل والقنوات الإلكترونية فى الدفع بديلًا عنه، وتطوير نظم الدفع القومية والعمل على تحقيق الشمول المالى، بهدف دمج أكبر عدد من المواطنين فى النظام المصرفى وضم القطاع غير الرسمى إلى القطاع الرسمى وتخفيض تكلفة انتقال الأموال وزيادة المتحصلات الضريبية، كما يهدف المجلس إلى حماية حقوق مستخدمى نظم وخدمات الدفع وتنظيم عمل الكيانات القائمة ورقابتها، وذلك عبر اتخاذ قرارات محددة بإطار زمنى أهمها إعداد مشروع قانون شامل لتطوير المعاملات غير النقدية، والالتزام بوضع حد أقصى لتلك المعاملات، فضلًا عن وضع تصور لإنشاء منظومة تكنولوجية متكاملة .

تطوير البنية القانونية والتشريعية

وعلى صعيد الجهود المبذولة لتطوير البنية القانونية والتشريعية فقد امتدت لتشمل القانون رقم 18 لسنة 2019 «قانون تنظيم استخدام وسائل الدفع غير النقدى»، الذى صدر فى 16 أبريل 2019، بهدف وضع إطار تنظيمى للمدفوعات غير النقدية وذلك لكل من القطاع العام والخاص، والعمل أيضًا على الرفع من مستوى فعالية وكفاءة نظم الدفع وتحقيق الشمول المالى.

إطلاق منظومة الدفع الوطنية

كما أثمرت جهود الدولة المصرية عن تحقيق العديد من الإنجازات فى مجال التحول الرقمى، ومنها إطلاق منظومة الدفع الوطنية "ميزة"، وذلك بهدف تحقيق سيادة واستقلالية نظم الدفع القومية والاحتفاظ بكافة بيانات الدفع محليًا داخل مؤسسات مصرية بما يحقق مزيدًا من الحماية لتلك البيانات وتقليل التعامل مع الشركات الأجنبية بالعملات الأجنبية، بالإضافة إلى تخفيض تكلفة خدمات الدفع للمواطنين بهدف تحقيق الشمول المالى، ذلك فضلًا عما تم تحقيقه على مستوى ميكنة المتحصلات الحكومية، حيث قام البنك المركزى المصرى بالتعاون مع وزارة المالية فى تنفيذ المرحلة الأولى من مشروع "ميكنة تحصيل المدفوعات الحكومية" والذى تم إطلاقه فى الأول من مايو 2019 .

إضافة إلى ذلك وضع البنك المركزى المصرى نصب أعينه التعاون مع كافة البنوك المركزية فى مختلف دول العالم، خاصة البنوك المركزية العربية، فى تنفيذ المبادرات التى تهدف إلى تعزيز التحول الرقمى، ومن أهمها نظام المقاصة العربية، والذى ينفذه صندوق النقد العربى بالتعاون مع خبراء وممثلين عن المصارف المركزية، ومؤسسات النقد العربية، ويجسد هذا النظام أهمية التعاون العربى المشترك لتعزيز استخدام التكنولوجيا المالية، كونه يقدم منصة رئيسية لتعزيز وتنشيط التجارة العربية البيئية من خلال اختصار الفترة الزمنية اللازمة لتنفيذ المدفوعات وخفض تكلفتها المصرفية.

تعزيز خطة التحول الرقمى

وقد تزامن مع هذه التوجهات قيام البنك المركزى المصرى بإصدار العديد من القرارات والإجراءات بل والتعليمات الملزمة لكافة أطراف المنظومة الاقتصادية بشكل عام ولجميع وحدات الجهاز المصرفى المصرى المنتشرة فى كافة بقاع مصر لكى تستقيم الأمور بشكل كامل، حيث دشن عددًا من المبادرات لتشجيع استخدام وسائل وأدوات الدفع الإلكترونية فى ظل التحديات الراهنة، وذلك تيسيرًا على المواطنين، بالإضافة إلى تعزيز خطة الدولة نحو التحول الرقمى، وكان من أهمها وضع إجراءات للحد من التعاملات النقدية وتيسير استخدام وسائل وأدوات الدفع الإلكترونى مثل تعديل الحدود القصوى لحسابات الهاتف المحمول والبطاقات المدفوعة مقدمًا، وتطبيق إجراءات التعرف على هوية العملاء بطريقة إلكترونية لعملاء البنك الجدد، فضلًا عن إصدار المحافظ الإلكترونية وكذلك البطاقات المدفوعة مقدمًا مجانًا لمدة 6 أشهر .

مبادرات إلكترونية

إضافة إلى ذلك فقد تم إطلاق "مبادرة السداد الإلكترونى" لزيادة أعداد وسائل القبول الإلكترونى المتاحة بكافة محافظات الجمهورية، حتى يستفيد من هذه المبادرة الشركات والتجار الذين ليس لديهم نقاط بيع إلكترونية أو رمز الاستجابة السريع.

وجاءت أهم المبادرات أيضًا فى إطلاق مبادرة لنشر ماكينات الصراف الآلى بهدف زيادة أعداد الماكينات بنحو 6500 ماكينة كمرحلة أولى ليصل إجمالى عدد ماكينات الصراف الآلى فى القطاع المصرفى إلى ما يقرب من 20 ألف ماكينة موزعة على كافة المحافظات، كما أطلق المركزى المصرى أيضًا مبادرة أخرى لتنشيط السداد الإلكترونى للمدفوعات، وتقليل الاعتماد على النقود "الكاش"، وذلك ضمن الإجراءات الاحترازية التى اتخذها لمواجهة فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19".

تحفيز وسائل الدفع الإلكترونية

وفى إطار تحفيز استخدام الوسائل والقنوات الإلكترونية، اتخذ المركزى العديد من القرارات والإجراءات، منها الدفع باستخدام الهاتف المحمول والبطاقات المصرفية، حيث تم تعديل الحدود القصوى لكل من حسابات الهاتف المحمول ووحدات النقود الإلكترونية المصدرة لكل بنك، وألغى أيضًا عمولات ورسوم عمليات التحويل من حسابات الهاتف المحمول، وإصدار البطاقات المدفوعة مقدمًا مجانًا، كما أعفى البنك المركزى التحويلات المحلية بالجنيه المصرى من العمولات والمصروفات للحد من التعاملات النقدية، إضافة إلى إلغاء الرسوم والعمولات المطبقة على رسوم نقاط البيع والسحب من الصرّافات الآلية والمحافظ الإلكترونية.

باب كامل للتكنولوجيا المالية

ولا يمكننا أن نغفل قانون البنك المركزى والجهاز المصرفى الجديد رقم 194 لسنة 2020 والذى أفرد بابًا كاملًا لنظم وخدمات الدفع والتكنولوجيا المالية، وذلك لأول مرة فى التشريعات الاقتصادية المصرية، وكذلك الأساس التشريعى لاستخدام التكنولوجيا الحديثة فى مجالات تقديم الخدمات المالية والمصرفية، حيث نص القانون على أنه يصدر قرارًا من مجلس الإدارة بتحديد شروط وإجراءات منح تراخيص وتشغيل نظم الدفع أو تقديم خدماتها.

الأمن السيبرانى

وفى ضوء ما يفرضه التحول الرقمى من تحديات تتعلق بالأمن السيبرانى، حرص البنك المركزى على تعزيز الأمن السيبرانى بالقطاع المصرفى باعتباره جزءًا رئيسيًا من رؤية واستراتيجية التوسع فى عمليات التحول إلى مجتمع أقل اعتمادًا على النقد بهدف توفير الحماية اللازمة للمتعاملين، وبناء مزيد من الثقة فى المعاملات المالية الرقمية، وذلك عن طريق تمكين منظومة الجهاز المصرفى المصرى من مواجهة مختلف أشكال المخاطر السيبرانية.

واتخذ البنك المركزى عددًا من القرارات المهمة للتعامل مع مخاطر الأمن السيبرانى، ومن أهمها إنشاء مركز للاستجابة لطوارئ الحاسب الآلى لتقديم بعض الخدمات المهمة للقطاع المصرفى فى مجال أمن المعلومات، كما تم إطلاق مبادرة «تميز الأمن السيبرانى بالقطاع المصرفى» بالتعاون مع المعهد المصرفي؛ لمواكبة ومواجهة التطور المستمر فى أساليب الجرائم الإلكترونية، والإحاطة بأفضل الممارسات الأمنية العالمية وزيادة الوعى بالأمن السيبرانى، واستهدفت هذه المبادرة تخريج  100 متخصص بالقطاع المصرفى على مدى عامين بالشراكة مع 5 من المؤسسات الدولية المتخصصة بمجال أمن تكنولوجيا المعلومات.

البنكنوت الجديد

وكانت الخطوة الراسخة التى وقف عليها مسئول المركزى المصرى تتعلق بإصدار أول عملة بلاستيكية من فئة 10 جنيهات والمصنوعة من مادة (البوليمر) وذلك فى شهر نوفمبر المقبل، على أن يتم إصدار فئة الـ 20 جنيه البلاستيكية فى وقت لاحق، وهو الأمر الذى تولى له القيادة السياسية اهتمامًا خاصًا، حيث اطلع الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ أيام على عينات من البنكنوت الجديد وذلك خلال اجتماع مع الدكتور مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء، والسيد طارق عامر محافظ البنك المركزى لاستعراض جهود البنك المركزى فى إطار النشاط الاقتصادى والتنموى من خلال منظومة العمل المصرفى والنقدى .

وفى هذا السياق أكد البنك المركزى المصرى أن النماذج المتداولة لعملة البنكنوت الجديدة لم يتم اعتمادها بشكل نهائى وأنها لا تزال فى طور التطوير والتعديل، لافتًا إلى أن الألوان المتعددة الموجودة على أحد نماذج العملات المتداولة، ليست جزءًا من تصميم العملة ولا تظهر عليها فى الطبيعة، ولكنها علامة مائية حديثة متعارف عليها عالميًا كواحدة من أحدث وأفضل تقنيات تأمين العملات المطبوعة، حيث إنه عند تحريك العملة الجديدة فى ضوء الشمس يظهر فقط لون واحد أو لونين من الألوان المدرجة فى العلامة المائية بما يجعل تزويرها أمرًا شديد الصعوبة .

مميزات العملات الجديدة

تصنع العملات الجديدة من مادة البوليمر وتتمتع بالعديد من المميزات مقارنة بالعملات الورقية التقليدية مثل طول عمرها الافتراضى، وقوة تحملها فهى ليست سريعة التلف أو قابلة للتشوه بسهولة، كما أنها تصنع من مواد صديقة للبيئة وقابلة لإعادة التصنيع، بالإضافة إلى أنها مقاومة للرطوبة والمياه والميكروبات، وبالتالى فهى أقل قابلية لنقل الميكروبات والفيروسات.

وفيما يتعلق بعوامل الأمان، تتوافق العملات الجديدة مع أعلى معايير الأمان المستخدمة فى طباعة النقود فى العالم، مما يجعل من الصعب للغاية تزويرها خاصة مع العلامات المائية المتطورة التى يستحيل تزويرها.

أحدث خطوط إنتاج العملات بالعالم

ومن الجدير بالذكر أن إنتاج فئات النقد الجديدة ستتم بأحدث خطوط إنتاج العملات فى العالم وبمواصفات تأمين هى الأحدث على المستوى العالمى، وتتميز النقود البلاستيكية، بالمرونة والقوة، والسمك الأقل، والتى تتيح عمرًا افتراضيًا أطول يصل إلى نحو 5 أضعاف عمر الفئة الورقية المصنوعة من القطن، علمًا بأنه تتم طباعة أوراق النقد "البنكنوت" وفقًا لعملية حسابية اقتصادية تراعى معدل ارتفاع أسعار السلع والخدمات المنتجة داخل الدولة "نسبة التضخم"، ومعدل النمو الاقتصادى المتحقق، وتتم طباعة البنكنوت على أساس حساب حجم الكاش المتداول داخل الاقتصاد المصرى.

وتتمتع النقود المصدرة، من قبل البنك المركزى، بما يسمى "قوة الإبراء" بمعنى أنها تساوى نفس قيمتها سلعًا وخدمات، وملزمة لكل الجهات بدفع مقابل قيمة الفئة النقدية.

 وهنا تجدر الإشارة إلى أنه على مدار الـ40 عامًا الماضية، تطورت عناصر التأمين الخاصة بفئات النقد الورقية، وبدأت بوضع علامة مائية موحدة لجميع الفئات، وإضافة الشرائط التأمينية، وووضع عناصر متغيرة بصريًا فى أحبار الطباعة، وإضافة عناصر ضد التصوير الملون لكل الفئات، ووضع علامة مائية -عام 2012- مخصصة لكل فئة على حدة، وهو ما استدعى إحلال الفئات القديمة بالجديدة، بمنتهى السلاسة التى تراعى تداول الكاش.

سحب البنكنوت التالف

ومع قرب طرح العملات الجديدة المصنوعة من البوليمر فى الأسواق، جدد البنك المركزى المصرى تأكيده على استمرار سريان التعامل بجميع العملات الورقية بلا استثناء، وأنه لا صحة على الإطلاق لما تم تداوله حول إلغاء التعامل ببعض الفئات الورقية بالتزامن مع إصدار نظيرتها المصنوعة من البوليمر، علمًا بأن سحب البنكنوت التالف من الأسواق يتم بإشراف البنك المركزى، ومن  الجدير بالذكر أن إطلاق منظومة البنكنوت الجديدة لن تتوقف عند حدود فئات العشرة والعشرين جنيهًا، بل ستمتد لتطول كافة أوراق البنكنوت المصرى بمختلف فئاته وبأقصى فئة له.

إحدى علامات السيادة للدولة

العملات الوطنية هى إحدى علامات السيادة للدولة، ومدى قوتها يُعبّر عن قوة اقتصادها، لذلك فإن تغيير العملات من أهم الحلول التى تلجأ إليها الدول لتقوية الحياة الاقتصادية، وذلك عن طريق جلب الكتلة النقدية المُتداولة فى السوق المُوازى خارج القنوات الرسمية للنشاط الاقتصادى والمالى، ويعد قرار تغيير العملة من أنجح الحلول فى نظر الاقتصاديين لامتصاص الأموال غير الشرعية فى الاقتصاد المحلى.

امتصاص النقود القديمة

عملية التحويل إلى العملة الجديدة ليست عملية سريعة التنفيذ بل تمتد إلى عدة سنوات، لامتصاص كل النقود القديمة على مراحل فعلى سبيل المثال استمرت تركيا 10 سنوات من 2005 إلى 2015 فى تلك المرحلة، حيث إن تداول العملة القديمة يبقى سارى المفعول إلى غاية زوالها من الأسواق بشكل طبيعى ودخولها إلى البنوك.

الثقة فى العملة الجديدة

إن طرح عملة جديدة مُميزة فى نوعيتها وتصميمها يعد سببًا مهمًا لتشجيع المواطن على التغيير، ويُعطيه الثقة من جديد فى العملة الجديدة، وكل عملية تحويلية لابد أن يكون لها أثر معاكس حتى تكون عملية صحيحة، ومثال ذلك مسألة عدم ثقة المواطنين فى العملة الجديدة والتوجه إلى اقتناء عملات أجنبية، كما أن تداول العملة الجديدة يتطلب وقتًا داخل المجتمع لاستيعابها ومعرفة قيمتها بشكل تدريجى، لذلك عندما تقرر الدولة تغيير عملتها تكون قد قامت بدراسة مستوفية لكل المزايا والسلبيات والآثار المتوقعة قبل صدور القرار وتعميمه للمواطنين والبدء فى التنفيذ.

قيمة العملة

تتحدد قيمة العملة بما تمتلكه الدولة من ثروات واحتياطات طبيعية «غاز، نفط، معادن»، وكذا بما لديها من أصول متعددة المصادر، كما تستند قيمة وقوة العملة إلى حجم الاحتياطات النقدية، والقدرة الإنتاجية والتصديرية للبلاد، وهناك عدة عوامل سياسية تدعم مكانة العملة، مثل القوة العسكرية والانتشار الجغرافى للدولة وربط تجارة بعض السلع المهمة فى العالم «النفط مثلا» بعملة معينة، كما حدث فى الدولار الأمريكى.

والأهم من كل ما سبق وجود قوى اقتصادية متكاملة تراعى أهمية وجود كيان اقتصادى لها وأهمية سيطرتها المالية وقوة قراراتها السيادية بين الدول.

تاريخ النقود فى مصر

وعن بداية استخدام النقود، تجدر الاشارة إلى أن النقود والعملة المصرية ظهرت كبديل للمقايضة مع تطور الحياة السياسية وكانت أول عملة تم صكها باسم الملك أو الفرعون المصرى «تاخوس» فى عام 350 قبل الميلاد، وكانت تسمى «النوب نفر» وتعنى الذهب الجيد أو الخالص، وهى تعد من العملات النادرة جدًا.

وفى عهد الإسكندر الأكبر، استخدم المصريون النقود فى تعاملاتهم اليومية للمرة الأولى، وكانت العملة فى ذلك الوقت تحمل صورة الإسكندر، وفى عام 306 قبل الميلاد ضُربت أولى النقود المصرية المستقلة من الذهب والفضة والبرونز، وهكذا استمر ضرب النقود فى عهد كليوباترا، ثم العصر الرومانى، ثم العصر البيزنطى، وطوال هذا التاريخ كانت العملات تحمل صورة الملك الحاكم على أحد الأوجه ثم صورة الإله الحامى على الوجه الآخر .

وبمرور الحضارات حتى الدولة الأيوبية احتفظت العملات بقيمتها المعروفة مع تغير الشكل فقط، وذلك استمر حتى وصول الدولة العثمانية مصر وأصدرت عملة (الزر المحبوب) ، أما فى عهد محمد على، فقد اهتم بالإصلاح الاقتصادى، حيث أصدر قرارًا باعتبار الريال أبو طاقة (المثقوب)، والمصنوع من الفضة هو وحدة النقود، وقيمته 20 قرشًا، إلى أن أقر الـ 100 قرش جنيه مصرى ذهب خالص كعملة تستخدم فى المعاملات الكبيرة، وذلك بعد أن حدد قيمة العملات الأجنبية فى مصر.

وفى 3 أبريل من العام 1899 أصدر البنك الأهلى المصرى الأوراق النقدية لأول مرة وصدر الجنيه الورقى وكانت قيمته تساوى 7.4 جرام من الذهب، واستخدم هذا المعيار ما بين عام 1885 وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى فى عام 1914، حيث تم ربط الجنيه المصرى بالجنيه الإسترلينى وكان الجنيه الإسترلينى يساوى 0.9 جنيه مصرى.

وقد تطورت طباعة الجنيه طوال القرن العشرين، حيث كان يطبع فى الخارج وفى العام 1968 أنشأ البنك المركزى المصرى دارًا لطباعة النقد وبدأ فى طباعة الفئات المختلفة من العملات الورقية فئة الجنيه والعشرة قروش والـ25 قرشًا وغيرها فى الأول من ديسمبر من عام 1968، كما قام البنك أيضًا بطباعة بعض العملات العربية لصالح بنوكها المركزية واختلفت أشكال العملات فمن الجنيه الجملى للجنيه الإدريسى إلى الحضارة.

وفى عام 1930 بدأ ولأول مرة استخدام العلامة المائية على أوراق النقد لحمايتها من التزوير، وفى عام 1944 ظهرت صورة الملوك على العملات، حيث ظهرت صورة لملك مصر فاروق على الجنيه بجانب بعض الصور الأثرية كجامع محمد على، وعلى العملات الأخرى كفئة الـ25 قرشا والـ50 قرشا والخمسة قروش والعشرة قروش وضعت صور زعماء وملوك مصر السابقين مثل الملك توت عنخ آمون والملكة نفرتيتى.

وبعد ثورة يوليو 1952 وضع على عملات العشرة قروش صورًا لفئات الشعب مثل الجندى، والفلاح، والعامل وسيدة مصرية وشقيقتها السودانية رمزًا لوحدة وادى النيل واستمر التطور لنرى أبو الهول وحابى ورمسيس وغيرهم .

أسباب تغيير العملات

هناك عدة دول فى العالم غيّرت عملتها النقدية، وكان الهدف هو تحقيق انطلاقة جديدة لاقتصاداتها، خاصة خلال فترة التسعينيات من القرن الماضى، ومنها التى نجحت فى ذلك كدول الاتحاد الأوروبى وتركيا، فيما فشل البعض الآخر مثل فنزويلا، ويذكر أن وجود تضخم نقدى وانتشار العملات المُزورة وارتفاع معدل التهرّب وتحويل الأموال خارج البلاد من أهم الأسباب التى تدعو الدول لتغيير عملاتها.

تجارب الدول الأخرى

تعد عملية تغيير العملة من العمليات الصعبة التى تحتاج إلى دقة عالية فى التنفيذ، لاسيما أنها تهدد بحدوث اضطرابات واسعة تؤثر على الاقتصاد بشكل عام فى حال وجود بعض الإخفاقات فى الخطة التنفيذية الموضوعة لهذا الغرض، وبالنظر إلى أبرز التجارب الدولية الناجحة فى تغيير العملات حول العالم نجد أن الهند نجحت فى هذه التجربة، حيث أعلن رئيس الوزراء الهندى (ناريندرا موندى) فى نوفمبر 2016 إلغاء فئة الخمسمائة روبية والألف روبية وذلك للقضاء على الفساد وغسيل الأموال، وقال رئيس الوزراء الهندى وقتها، إن على الشعب الهندى المساعدة فى القضاء على الفساد والتهرب الضريبى وتنظيف البلاد من الأموال السوداء، وتحمل الآثار السلبية المترتبة على قرار تغيير العملة، وتعد محاربة العمليات التمويلية للميليشيات التى تحارب القوات الهندية سببًا رئيسيًا لهذه الخطوة، خصوصًا مع التقارير عن اعتماد تلك الميليشيات على أوراق نقدية مزيفة من فئة 500 روبية.

ووجدت الهند مشكلة كبيرة ناتجة من طوابير تغيير العملة أمام البنوك وماكينات صرف النقود، لذلك قامت السلطات بمنح المواطنين فرصة شهرًا لاستبدال العملات القديمة، وقد صرح "موندى" حينها بأن الأزمة الناتجة ستستمر 50 يومًا فقط من تاريخ إعلان قرار التغيير.

التجربة التركية

تمكنت أيضًا تركيا من القيام بتجربة اقتصادية ناجحة، باستبدال العملة القديمة وسحبها من التّداول عام 2005، حيث طرحت بدلًا منها العملات الجديدة الخالية من الأصفار، وتأتى خطوة تركيا فى تغيير عملتها فى إطار حملتها لإظهار مدى قوة اقتصادها للاتحاد الاوروبى قبل بدء المحادثات التى قامت بها فى شأن انضمامها للتكتل الأوروبى فى 3 أكتوبر سنة 2005، وهذه الخطوة كنت تعتبر تدعيمًا لعملية التطبيع الاقتصادى بما يتفق مع مساعى تركيا لاكتساب عضوية الاتحاد الأوروبى. 

تجربة السعودية

قامت السعودية بتجربة اقتصادية ناجحة بتغيير عملتها، حيث أطلقت مؤسسة النقد العربى السعودى الإصدار السادس للعملة السعودية، الذى حمل تصاميم جديدة، وصورة الملك سلمان بن عبدالعزيز، وكان من بين التغييرات فى الإصدار السادس تحويل عملة الريال من عملة ورقية إلى عملة معدنية، وإيقاف إصدار العملة الورقية، وإصدار جديد لعملة الريالين، و50 هللة، و25 هللة، وعشر هللات، وخمس هللات، وهللة واحدة، وكلها معدنية.

تجربة فنزويلا

 كانت فنزويلا واحدة من أغنى دول أمريكا اللاتينية حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضى، وكانت أكثر الدول سعادة، إلى أن وصل بها إلى تجاوز معدلات التضخم 400 فى المئة، واضطرت السلطات إلى طبع العملة دون رصيد اقتصادى، وخسر البوليفار الفنزويلى ما يتجاوز 60 % من قيمته فى شهر واحد فقط وذلك خلال نوفمبر 2016، مقابل الدولار الأمريكى بالسوق السوداء، وسجل سعر الدولار الواحد نحو 4000 بوليفار.

وعملت المؤسسات الحكومية فى فنزويلا، التى تمتلك أكبر احتياطى من النفط فى العالم، لمدة يومين فقط من الأسبوع فى محاولة من الحكومة لخفض فاتورة استهلاك الكهرباء والمياه، حيث رافق ذلك نقص كبير فى السلع الغذائية والدواء وغيرها من الضروريات مما جعل هذا البلد يعانى أكثر من زيادة معدل الجريمة بسبب الضغوط التى تعرض لها الشعب الفنزويلى وذلك وفقًا لتقارير دولية وعالمية.

وقرر الرئيس الفنزويلى، نيكولاس مادورو فى ديسمبر 2016، إلغاء العملة من فئة 100 بوليفار، وقامت الحكومة الفنزولية بطرح أوراق نقدية بقيمة 500 و5000 بوليفار، تتبعها طباعة فئات من 1000 و2000 و10000 و20000 بوليفار، لتدخل فى الدورة النقدية خلال النصف الأول من 2017.

الليرة الإيطالية واليورو

وقد تكرر المشهد بدولة إيطاليا وبعض الدول الأوروبية، عندما بادر زعمائهم ورؤسائهم برغبة فى إطلاق عملة اليورو الموحدة لدول الاتحاد الاوروبى، عندئذ أعلنت إيطاليا عن تغيير كافة العملات الليرة الإيطالية باليورو فى غضون 4 أيام فقط، الأمر الذى أسفر عن إحداث حالة من الفزع والخوف لدى كافة حائزى الليرة الايطالية من أصحاب التجارة غير المشروعة والمافيات، ولم يكن هناك مفر من هذا المأزق لأنه من المنطقى أن تلك المافيات أو أصحاب الأموال غير الرسمية إذا تقدموا لتغييرها من نوافذ الجهاز المصرفى بايطاليا سيتم ضبطهم وسؤالهم «من أين لكم هذا» وما هى التجارة او الصناعة التى أسفرت عن تربحكم لمثل هذه الأموال الطائلة ؟، ولأن العصابات فى معظم البلدان تحاول استخدام ذكائها بالبحث عن أفضل الوسائل التى تخبئ فيها تلك الأموال غير الشرعية أو غير الرسمية، فقد كان الطريق الوحيد أمام المافيا الإيطالية هو الإسراع بضخ تلك السيولة من الليرات الايطالية لشراء وحدات وبنايات عقارية ، لتختبئ بين جدرانها من الجهات الرقابية .

المنظومة العقارية.. والسياسة النقدية

لكن.. الأمر الآن أصبح مختلفًا كثيرًا فى بلدان عديدة بادرت باتخاذ منهج الإصلاح الاقتصادى والتى تطول أيضًا إعادة ضبط قواعد اللعبة بالسوق العقارى والإحكام بزمام أموره بوصف بعض من أجزاء هذا السوق مرتعًا خصبًا لكثر وكثير من أصحاب الأموال غير المشروعة .

ومن هنا جاءت وتعالت أصوات الكثيرين من أصحاب الانتماء الوطنى للمطالبة بضرورة وضع ضوابط وقواعد وأعراف تحتكم إليها كافة أطراف المنظومة العقارية بوصفها الثغرة الأخيرة والأهم والأكبر المطلوب ترميمها لاستكمال منظومة تصحيح السياسة النقدية فى الدولة .