هاني جنينة: التحليل المحلي أكثر دقة من التقارير الدولية
مصطفي شفيع: انتعاش مصادر النقد الأجنبي كلمة السر في تحسن الجنيه
وفي الوقت الذي يقدر فيه خبراء القيمة العادلة للجنيه بـ بين 45 و47 جنيهًا للدولار، أي أعلى من مستوياته الفعلية، ويعزون ذلك إلى عوامل مثل ارتفاع معدلات التضخم الفعلية، وتحسن مصادر العملة الأجنبية، لاسيما السياحة وتحويلات العاملين بالخارج ، يرى آخرون أن قوة الجنيه مؤخرًا، تعود إلى تدفقات مؤقتة من أموال ساخنة جذبتها أسعار الفائدة المرتفعة، بدعم من توصيات مؤسسات مالية عالمية، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى استدامة هذا التحسن ما لم يقترن بإصلاحات اقتصادية هيكلية، وزيادة الصادرات، وتوطين الإنتاج المحلي لتقليل الاعتماد على الخارج.
في تقرير حديث له ، قال بنك «جولدمان ساكس»: الجنيه المصري لا يزال مقوَّمًا بأقل من قيمته العادلة بنحو 30 %، مشيرًا إلى أن السعر العادل يقترب من 35 جنيهًا للدولار، مقارنة بمستوياته الحالية في السوق ، مؤكدا أن هذا الفارق يخلق فرصة استثمارية واعدة، داعيًا المستثمرين الأجانب إلى الاستفادة من العوائد المغرية التي تقدمها أدوات الدين المصرية، والتي تُعد من بين الأعلى في الأسواق الناشئة حاليًا. فيما أظهر مؤشر بيج ماك الشهير، الصادر عن مجلة The Economist، أن الجنيه المصري مقوَّم بأقل من قيمته الحقيقية بنسبة 58 %، مستندًا إلى مبدأ مقارنة أسعار المنتجات المتماثلة بين الدول ، وبحسب المؤشر، فإن السعر العادل للدولار أمام الجنيه ينبغي أن يبلغ 20.8 جنيهًا، وهو ما يُشير إلى أن الجنيه مقوم بأقل بكثير من قيمته إذا ما تم تقييمه وفقًا للقوة الشرائية.
التحليل المحلي أكثر دقة من التقارير الدولية
هاني جنينة عضو هيئة التدريس بالجامعة الأمريكية ورئيس وحدة البحوث بشركة الأهلي فاروس لتداول الأوراق المالية، يقول أن بعض التقارير الدولية لم تعد تتمتع بالدقة أو الأولوية في قراءة الوضع الاقتصادي المصري، مشيرًا إلى أن المؤسسات الدولية الكبرى التي كانت تتابع مصر بتركيز في بدايات الألفينات أصبحت تنظر إليها اليوم كسوق ثانوي.
وأضاف جنينة: «أنا لا أعلّق كثيرًا على التقارير الدولية لأنها أصبحت تتابع السوق المصري بسطحية نتيجة انخفاض حجم الاستثمارات لعدة سنوات، كنت أعتمد في السابق على تقييماتهم، لكن اليوم أرى أن التحليل المحلي من جهات مثل “الأهلي فاروس” أكثر دقة وواقعية.
وأشار إلى أن التقييم العادل الحالي لسعر الصرف وفقًا لنموذج التحليل الذي تستخدمه الشركة يُقدّر بحوالي 47 جنيهًا للدولار، مع نطاق تقلب يتراوح بين 45 إلى 47 جنيهًا، مؤكدًا أن السعر الحالي ما زال أقل من قيمته العادلة.
وأوضح جنينة أن الفارق بين التقييم الرسمي وبعض التقديرات الأخرى – مثل 35 جنيهًا للدولار – يعود إلى أن أرقام التضخم الرسمية لعام 2023 لم تعكس الارتفاع الفعلي في أسعار السلع بالسوق الموازية، حيث لجأت الشركة إلى استقصاءات مباشرة من الشركات حول نسب رفع الأسعار التي بلغت في المتوسط بين 60 % إلى 70%.
وعن أسباب تحسن قيمة الجنيه، قال: «هناك عاملان رئيسيان وراء تحسن الجنيه: الأول أن السعر كان مقوّمًا بأقل من قيمته الفعلية، والثاني ضعف الدولار عالميًا، خصوصًا أمام اليورو، هذه الديناميكية جذبت استثمارات من الخارج لأسواق تُعتبر عملاتها دون قيمتها العادلة، مثل الجنيه المصري.»
وأضاف أن تدفقات الأموال الأجنبية، خاصة الأموال الساخنة، جاءت استباقًا لعدة تطورات إيجابية مرتقبة في السوق المصري، أبرزها استكمال مراجعات صندوق النقد الدولي، وتحسن التصنيف الائتماني، وتوقعات بتدفقات دولارية من برنامج الطروحات وأصول الدولة مثل بنك القاهرة.
وأشار إلى أن هناك فرصًا إضافية لتعزيز الاحتياطي النقدي عبر صفقات محتملة مع قطر بقيمة 4.5 مليار دولار، وصفقات أخرى محتملة مع دول الخليج، فضلًا عن تحسن العوائد من قناة السويس وتحويلات العاملين بالخارج والسياحة.
وتابع جنينة: « الارتفاع في الجنيه مؤخرًا كان متكئًا على قدمًا واحدة فقط – وهي الأموال الساخنة – ولكن في الشهور المقبلة من المتوقع أن تدخل مصادر تمويل واستثمار أكثر استدامة.»
وأكد جنينة أن الآفاق على مدى 6 إلى 12 شهرًا إيجابية جدًا لمصر، وإذا استمرت هذه العوامل، فمن الطبيعي استقرار سعر الصرف بين 45 و47، قبل أن يتدخل البنك المركزي لدعم الاحتياطي عبر شراء الدولار عندما يصل السعر إلى هذه المستويات.
ويتم تحديد القيمة العادلة لأي عملة، بما فيها الجنيه باستخدام عدد من النماذج الاقتصادية، لكن من أشهرها وأكثرها استخدامًا في تحليل أسواق الصرف ما يلي:
نموذج (PPP) تعادل القوة الشرائية هو أكثر النماذج استخدامًا من المؤسسات والذي يعتمد على أن سعر الصرف يجب أن يعكس الفروقات في الأسعار بين دولتين على النحو التالي: سعر الصرف العادل = السعر المحلي للسلعة / السعر العالمي لنفس السلعة.
مثلًا: إذا كان سعر هاتف معين في مصر يعادل 49 ألف جنيه، وفي أمريكا يعادل 1,000 دولار، فإن السعر العادل للدولار هو ناتج قسمة 49 ألفًا على الألف والذي يساوي 49 جنيهًا
أما النموذج الثاني هو نموذج (REER) سعر الصرف الفعلي الحقيقي وهو أكثر تعقيدًا ويأخذ في الاعتبارعدة معايير اقتصادية تضم ( معدل التضخم المحلي مقارنة بشركاء التجارة- الميزان التجاري- الإنتاجية- أسعار الفائدة).
أما النموذج الثالث فهو نموذج التحليل الأساسي (Fundamentals-based Model) والذي يعتمد على عوامل متعددة تشمل ( الاحتياطيات الأجنبية - سعر الفائدة الحقيقي - معدل النمو -ميزان المدفوعات).
انتعاش مصادر النقد الأجنبي كلمة السر في تحسن الجنيه
يؤكد مصطفى شفيع، رئيس قسم البحوث في شركة «العربية أون لاين لتداول الأوراق المالية»، أن سعر الصرف يشهد حالة من التناغم والارتياح، حيث ترتفع قيمة الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي بشكل متتابع، متراجعًا من حاجز 51 إلى 50 ثم 49 جنيهًا، والآن بات دون هذا المستوى.
وأشار شفيع إلى أن مؤسسة جولدمان ساكس هي الجهة الوحيدة التي أصدرت تقريرًا حول القيمة العادلة لسعر صرف الجنيه أمام الدولار، والتي قدّرتها بأنها أقل بنسبة 30 % من السعر الفعلي، بما يعادل نحو 35 جنيهًا. ولم يصدر أي تقييم مماثل من مؤسسات كبرى مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي.
وأوضح شفيع أن ارتفاع قيمة الجنيه له أسباب جوهرية، أهمها انتعاش المصادر الرئيسية للعملة الأجنبية في مصر مقارنة بالعام الماضي، وتحديدًا تحويلات المصريين العاملين بالخارج، وقطاع السياحة.
وأشار إلى أن مرونة سعر الصرف التي أقرها البنك المركزي، والقضاء على السوق الموازية، شجعت العاملين بالخارج على تحويل أموالهم عبر القنوات الرسمية، ما عزز تدفق النقد الأجنبي إلى داخل الاقتصاد.
أما قطاع السياحة، فأكد شفيع أنه يشهد حالة من النشاط القوي خلال عام 2024، ومن المتوقع أن تصل أعداد السائحين في 2025 إلى نحو 17 إلى 18 مليون سائح، ما يعزز إيرادات الدولة من العملة الأجنبية.
وفي سياق متصل، أوضح شفيع أن تقرير جولدمان ساكس أوصى المستثمرين الأجانب بالدخول في عمليات carry trade في الاقتراض من دول ذات فائدة منخفضة للاستثمار في أدوات دين بدول ذات فائدة مرتفعة مثل مصر، ما شجع دخول أموال ساخنة “Hot Money” تدعمت سعر الصرف.
وأوضح أن هؤلاء المستثمرين يقومون بتحويل الدولار إلى الجنيه المصري للاستثمار في أدوات دين قصيرة الأجل كأذون الخزانة، ما يرفع من المعروض من الدولار ويقوي الجنيه.
وأكد شفيع أن هذا التدفق مفيد على المدى القصير، لكنه غير مضمون على المدى المتوسط والطويل، حيث أن تلك الاستثمارات الأجنبية مؤقتة بطبيعتها، وقد يتخارج أصحابها عند أول تغير في المعطيات، مما قد يؤثر لاحقًا على استقرار السوق.
وتساءل شفيع: هل ستستمر قوة تحويلات العاملين بالخارج، والسياحة، وقناة السويس بنفس الوتيرة؟ مشيرًا إلى أنه رغم التفاؤل، إلا أن استمرار هذه القطاعات بنفس الأداء القوي ليس مضمونًا على المدى الطويل.
أوضح شفيع أن الميزان التجاري (الصادرات والواردات) يمثل عاملًا رئيسيًا في تحسين الحساب الجاري وتعزيز الجنيه بشكل مستدام.
وقال إن مصر بحاجة إلى زيادة صادراتها، وتقليل الواردات، لا سيما من السلع الرفاهية، والعمل على توطين الصناعة والإنتاج المحلي كبديل.
واختتم شفيع حديثه بالإشارة إلى أهمية الصفقات الاستثمارية الخليجية، سواء المتعلقة ببنك القاهرة أو مبادلة أدوات الدين والودائع الخليجية، موضحًا أن هذه الصفقات تدعم الوضع الحالي، لكنها ليست بديلًا عن الإصلاحات الاقتصادية الجوهرية.