«تسونامي تجاري» يهدد امبراطوريات الذهب والساعات


الاحد 17 اغسطس 2025 | 04:03 مساءً
الذهب والساعات
الذهب والساعات
العدد الورقي

كيف أطاحت ضرائب ترامب بهدوء سويسرا الاقتصادي..؟

جميع السلع السويسرية التي تدخل السوق الأمريكية خضعت لرسوم جمركية إضافية بنسبة 39 %

ترامب : الرسوم تعكس فائض الميزان التجاري السويسري مع أمريكا والذي يقدره بنحو 40 مليار دولار

الزيادة المفاجئة وضعت الشركات المستوردة في مأزق لإعادة تسعير منتجاتها أو إيجاد بدائل في أسواق أخرى

في مصر تقتصر التأثيرات على ارتفاع أسعار سلع فاخرة أو معدات متخصصة لكن المستهلك العادي لن يشعر بها

في خطوة فاجأت حتى أكثر المراقبين خبرة في قراءة سياساته ، تسبب قرار جديد للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في رجّة قوية في الأسواق العالمية، بعدما قرر ترامب فرض رسوم جمركية بنسبة 39 % على الواردات السويسرية.

هذا القرار لم يأتِ من فراغ، بل هو امتداد لسلسلة من المواجهات التجارية التي يخوضها ترامب منذ سنوات، والتي يرى فيها مؤيدوه إعادة توازن للمصالح الأمريكية، بينما يعتبرها معارضوه تهديداً للاستقرار الاقتصادي العالمي.

قبل عدة أيام، وتحديدا في صباح يوم الأول من أغسطس 2025، أعلنت الإدارة الأمريكية أن جميع السلع السويسرية التي تدخل السوق الأمريكية ستخضع لرسوم جمركية إضافية بنسبة 39%، على أن يبدأ التنفيذ بعد أسبوع واحد فقط من الإعلان ،القرار، الذي وصفه ترامب بأنه «تصحيح لمسار العلاقات التجارية»، جاء في وقت تشير فيه البيانات الأمريكية إلى عجز تجاري مع سويسرا بلغ نحو 40 مليار دولار، وهو رقم يرى البيت الأبيض أنه غير مقبول في ظل كون الولايات المتحدة السوق الأكبر للعديد من السلع السويسرية الفاخرة ، الرسوم لم تستثنِ إلا عددًا محدودًا من المنتجات، بينما شملت قائمة طويلة تضم الساعات، والآلات الدقيقة، وبعض المواد الغذائية المصنعة، وحتى بعض الأجهزة الطبية.

في خطابه، أشار ترامب إلى أن سويسرا «استفادت لسنوات من انفتاح السوق الأمريكية دون أن تقدم المعاملة بالمثل»، وأن الوقت قد حان «لوقف استغلال الاقتصاد الأمريكي» ، وبينما بدت الرسالة واضحة من الناحية السياسية، فإن تداعياتها الاقتصادية على الطرفين لم تكن لتتأخر في الظهور.

تداعيات مباشرة

من الناحية الفنية، لم يكن القرار مجرد إضافة رقم جديد على جداول الرسوم، بل إعادة هيكلة كاملة للتعرفة الجمركية على الواردات السويسرية ، فقد تمت إضافة نسبة 39 % إلى التعريفة السارية لكل بند من بنود النظام المنسق للتجارة، ما جعل بعض السلع ترتفع أسعارها في السوق الأمريكية بنسبة تصل إلى 60 % عن قيمتها الأصلية، هذه الزيادة المفاجئة وضعت الشركات المستوردة في مأزق، إذ كان أمامها أيام قليلة فقط لإعادة تسعير منتجاتها أو إيجاد بدائل في أسواق أخرى، ومنذ اللحظة الأولى للإعلان، بدأت موجة من ردود الفعل الغاضبة في سويسرا، حيث حذرت اتحادات الصناعات من أن القرار يهدد آلاف الوظائف ويضرب قطاعات تعتمد على السوق الأمريكية كمصدر أساسي للإيرادات. في المقابل، رحب بعض المصنعين الأمريكيين بالخطوة، معتبرين أنها ستمنحهم فرصة أكبر للمنافسة في مجال المنتجات الفاخرة والآلات الدقيقة.

تقديرات الخبراء تشير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي السويسري قد يتأثر بنسبة تتراوح بين 0.3 % و1 % على مدى العامين المقبلين، مع احتمال فقدان آلاف الوظائف إذا استمرت الرسوم لفترة طويلة. كما أن الشركات السويسرية باتت مضطرة إلى إعادة النظر في استراتيجياتها التسويقية، وربما نقل جزء من عمليات الإنتاج إلى داخل الولايات المتحدة لتجنب الرسوم، وهو خيار يحمل تكاليف ضخمة ولا يتناسب مع نموذج الإنتاج الحرفي الذي اشتهرت به هذه الصناعات.

ضحية أولى

إذا كان للقرار الأمريكي ضحية أولى واضحة، فهي صناعة الساعات السويسرية التي تمثل أيقونة وطنية وأحد أعمدة الاقتصاد المحلي، فالرسوم الجديدة تعني أن سعر ساعة «رولكس» أو «باتيك فيليب» قد يرتفع في السوق الأمريكية إلى مستويات غير مسبوقة، ما سيدفع المستهلكين إما لتقليل مشترياتهم أو التوجه نحو أسواق بديلة، المثير للاهتمام أن سوق الساعات المستعملة شهد منذ الإعلان قفزة في الطلب، حيث أوضح تجار في نيويورك أن المبيعات ارتفعت بنحو 20 % في أسبوع واحد فقط، مع تحول المستهلكين نحو هذه الفئة الأقل تكلفة ، تقرير حديث لبنك «مورجان ستانلي» أشار إلى أن شركات الساعات الكبرى كانت قد رفعت أسعارها بالفعل في الولايات المتحدة خلال الأشهر السابقة، ربما استباقاً لخطوة كهذه، ما يجعل تأثير الرسوم أقل حدة من المتوقع في المدى القصير، لكنه سيظل مؤثراً على المدى الطويل إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق جديد.

استثناء الذهب

بعد أيام من الجدل، أعلن ترامب استثناء الذهب والمعادن النفيسة الأخرى من الرسوم الجديدة، مبرراً ذلك بالحفاظ على استقرار الأسواق المالية الأمريكية التي تعتمد بشكل كبير على استيراد هذه المواد من سويسرا ، هذا الاستثناء اعتبره محللون خطوة ذكية من الناحية السياسية، إذ جنّب ترامب مواجهة مع صناعة الذهب والمجوهرات في الداخل الأمريكي، وفي الوقت نفسه منح سويسرا متنفساً محدوداً ، غير أن البعض رأى في هذه الخطوة دليلاً على ارتجالية القرارات، خاصة أن الذهب كان مدرجاً في القائمة الأولية للسلع الخاضعة للرسوم ، وبالنسبة للسويسريين، فإن الاستثناء لا يغير كثيراً من حقيقة أن القطاعات الأكثر أهمية بالنسبة لهم ما زالت في قلب الاستهداف.

الشرق الأوسط ومصر

في الشرق الأوسط، لم يظهر تأثير مباشر واسع النطاق، لكن بعض القطاعات قد تشهد انعكاسات غير مباشرة، خاصة في أسواق المجوهرات والأجهزة الطبية التي تعتمد على واردات سويسرية ، في مصر، التي ليست من الأسواق الكبرى للمنتجات السويسرية، قد تقتصر التأثيرات على ارتفاع أسعار بعض السلع الفاخرة أو المعدات المتخصصة، لكن المستهلك العادي لن يشعر بفارق كبير، غير أن استمرار هذا النمط من السياسات الحمائية قد يخلق بيئة تجارية عالمية أكثر تعقيداً، ما ينعكس على حركة الاستثمارات والتبادل التجاري بشكل عام في المنطقة.

عوامل التحصين

مجلة لوبوان الفرنسية، التي رصدت أبعاد الموقف، أشارت في تقرير لها إلى أن السيناريو الذي كانت سويسرا تراه مستبعداً أصبح واقعاً ملموساً، رغم كل عوامل «التحصين» التي اعتقدت أنها تملكها، من حيادها السياسي التاريخي، إلى علاقاتها المالية المتينة مع واشنطن، وصولاً إلى صفقاتها الدفاعية الضخمة التي انحازت فيها لصالح الصناعة العسكرية الأمريكية على حساب الفرنسية، عبر شراء مقاتلات «إف-35» ومنظومات «باتريوت» بدلاً من طائرات «رافال» ، لكن كل ذلك لم يمنع ترامب من استهدافها تجارياً، مبرراً قراره بأن الرسوم تعكس تقريباً قيمة فائض الميزان التجاري السويسري مع الولايات المتحدة، والذي يقدره بنحو 40 مليار دولار.

ما تجاهله ترامب – كما تقول المجلة – هو أن الاستثمارات السويسرية في الاقتصاد الأمريكي تصل إلى نحو 350 مليار دولار، ما يجعلها سادس أكبر مستثمر أجنبي في الولايات المتحدة، وهو رقم لافت بالنسبة لدولة لا يتجاوز عدد سكانها تسعة ملايين نسمة. لكن هذه الأرقام لم تمنع الرئيس الأمريكي من المضي قدماً، بل إنه وسع نطاق الضغط ليشمل قطاع الأدوية العملاق، موجهاً رسالة مباشرة لشركات الأدوية السويسرية يطالبها فيها بخفض أسعار منتجاتها في السوق الأمريكية، مهدداً باستخدام «جميع الوسائل المتاحة لحماية العائلات الأمريكية من ممارسات التسعير التعسفية».

الحلفاء التاريخيين

بهذا القرار، فتح ترامب فصلاً جديداً من المواجهات التجارية التي لا تعترف بالتقاليد الدبلوماسية أو المصالح المتبادلة، في إشارة واضحة إلى أن حتى الحلفاء التاريخيين ليسوا بمنأى عن سياساته الحمائية، وأن «أمريكا أولاً» ستظل المبدأ الحاكم لنهجه الاقتصادي، مهما كانت كلفة ذلك على الشركاء.

لم يكتفِ ترامب بالرسوم الجمركية التي فرضها في 31 يوليو بنسبة 25% على السلع الهندية، بل أعلن في مقابلة مع شبكة «سي إن بي سي» أن هذه النسبة سترتفع قريباً إلى مستوى أكبر بكثير، دون تحديد الرقم النهائي ،مبرره الرئيس في هذه الخطوة كان استمرار الهند في شراء النفط الروسي، معتبراً أن ذلك «يغذي آلة الحرب» في أوكرانيا ، وأكد أن منح نيودلهي إعفاءات جمركية للصادرات الأمريكية لم يعد مبرراً طالما أنها تدعم – بحسب تعبيره – الاقتصاد الروسي.

ردود الفعل في نيودلهي كانت حادة، حيث وصفت وزارة الخارجية القرار بـ»التمييز غير المبرَّر»، مشيرة إلى استمرار العلاقات التجارية بين روسيا والولايات المتحدة نفسها، وكذلك الاتحاد الأوروبي، على الرغم من الانتقادات الموجهة للهند. واستشهدت الخارجية الهندية بأرقام تظهر أن الاتحاد الأوروبي أجرى تبادلات تجارية بقيمة 67.5 مليار يورو مع روسيا في عام 2024، بما في ذلك واردات قياسية من الغاز المسال، بينما تواصل واشنطن استيراد معادن ومواد استراتيجية من موسكو.

سياسياً، لم تتأخر المعارضة الهندية في استغلال الموقف، إذ وصف مانيش تيواري، القيادي في حزب المؤتمر المعارض، تصريحات ترامب بأنها «مهينة» وتمس «كرامة الهنود»، داعياً الحكومة إلى مواجهة «الاستقواء المستمر» من واشنطن.

الأوروبيون لم يسلموا من أجواء القلق.. ففي بروكسل، أكد مسؤول في الاتحاد الأوروبي أن التكتل يتوقع اضطرابات في العلاقات التجارية مع واشنطن، لكنه يعوّل على الاتفاق الإطاري الموقع في 27 يوليو، الذي يحدد سقف الرسوم الجمركية على معظم السلع الأوروبية بـ15 %. وأوضح أن «الوضع يتطلب إدارة دقيقة»، مؤكداً أن بروكسل عدّلت استراتيجيتها في التعامل مع الولايات المتحدة جذرياً.

على الجانب الآسيوي، أعلن ترامب قرب فرض رسوم جديدة على قطاع الأدوية وأشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية، بحيث تبدأ بشكل «محدود» وتتصاعد تدريجياً إلى %150 ثم 250 % خلال عام ونصف، بهدف إعادة تصنيع الأدوية داخل الولايات المتحدة. أما بشأن الصين، فأشار إلى اقتراب إبرام اتفاق تجاري شامل، مع احتمال لقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ قبل

الشركاء الكبار

القرارات الأخيرة تكشف عن ملامح سياسة تجارية أمريكية لا تتردد في استهداف شركاء كبار في آسيا وأوروبا، وهو ما يفتح الباب أمام جولة جديدة من «الحروب التجارية» التي شهدها العالم في عهد ترامب الأول ، ومع امتداد الإجراءات إلى مجالات استراتيجية مثل الأدوية والتكنولوجيا المتقدمة، يتوقع خبراء أن ترتفع وتيرة إعادة تشكيل سلاسل الإمداد العالمية، وأن تواجه الاقتصادات الناشئة ضغوطاً مزدوجة بين الحاجة للحفاظ على علاقتها بالولايات المتحدة وعدم خسارة شركائها التقليديين.

قرار ترامب بفرض رسوم 39 % على الواردات السويسرية ليس مجرد خلاف تجاري عابر، بل حلقة جديدة في سلسلة من التحولات الكبرى التي يشهدها النظام الاقتصادي العالمي. فالرئيس الأمريكي أرسل رسالة واضحة مفادها أن الحماية الاقتصادية تتقدم على الالتزامات التقليدية تجاه الحلفاء، وأن الميزان التجاري هو الحكم النهائي على طبيعة العلاقات. وفي حين قد تحقق هذه السياسات بعض المكاسب القصيرة المدى للاقتصاد الأمريكي، فإنها تزرع في الوقت نفسه بذور توترات طويلة الأمد قد تعيد تشكيل خريطة التجارة الدولية لعقود قادمة. بالنسبة لسويسرا، يبقى التحدي الأكبر هو التكيف مع واقع جديد حيث لم تعد العلاقات التجارية محمية بماضيها أو بتاريخها، بل بمدى قدرتها على التفاوض في مواجهة سياسات متقلبة وغير متوقعة.