في مطلع الألفية الثالثة، وبينما كان العالم يخطو نحو الاقتصاد الرقمي بخطى متسارعة، اختارت دبي أن تكون في مقدمة الركب، لا على الهامش. ففي عام 1999، أطلقت الإمارة أولى خطواتها الكبرى في هذا التحول عبر «مدينة دبي للإنترنت»، لتشكل نقطة تحول محورية في مستقبلها الاقتصادي.
ولم يكن ذلك القرار عابرًا، بل نابعًا من رؤية طموحة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، أراد بها ترسيخ مكانة الإمارة مركزًا إقليميًا وعالميًا للاقتصاد الرقمي.
ولادة بنية تحتية رقمية من قلب الصحراء
جاء إطلاق مدينة دبي للإنترنت كأول منطقة حرة متخصصة في التكنولوجيا في المنطقة، ليمهد الطريق أمام بيئة جاذبة لكبرى شركات التقنية. وفي قلب هذه المبادرة، برزت فكرة إنشاء مركز بيانات عالمي، يوفر قاعدة موثوقة لاستضافة المواقع وخدمات الإنترنت، ويُمكّن التحول الرقمي في الشرق الأوسط.
في عام 2001، تحول هذا الطموح إلى واقع بإطلاق مركز e-Hosting بالشراكة مع شركة IBM، والذي اعتُبر آنذاك أول مركز بيانات متطور من نوعه في الشرق الأوسط. صُمم المركز لتقديم استضافة احترافية تتيح للشركات نقل أنظمتها التقنية إلى بيئة أكثر أمانًا واعتمادية، بدلًا من الاعتماد على خوادم داخلية محدودة القدرات.
وقد حضر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم افتتاح المركز، في لحظة وُصفت بأنها تأسيس لمستقبل جديد، لا مجرد افتتاح لمرفق تقني.
استثمار استراتيجي في اقتصاد المستقبل
رغم حداثة المفهوم إقليميًا في ذلك الحين، وضعت دبي أهدافًا طموحة بتحقيق إيرادات تصل إلى 50 مليون دولار خلال ثلاث سنوات، عبر خدمات موجهة للسوقين المحلي والإقليمي. وكان ذلك بمثابة إعلان مبكر بأن دبي لا تنتظر تحوّل العالم، بل تصنع مستقبلها بنفسها.
وقد أكد معالي محمد بن عبدالله القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء (الذي كان آنذاك مدير عام سلطة منطقة دبي الحرة للتكنولوجيا والإعلام)، أن المدينة التزمت منذ انطلاقها بمبدأ الشراكة الإيجابية مع الشركات العالمية، لتوفير أفضل بنية تحتية رقمية في المنطقة.
مدينة دبي للإنترنت: منصة النمو والتحوّل
لم يكن مركز البيانات مشروعًا معزولًا، بل جزءًا من رؤية متكاملة لتحويل مدينة دبي للإنترنت إلى منصة إقليمية للابتكار التقني. ومع مرور السنوات، أصبحت المدينة موطنًا لأكثر من 1600 شركة تقنية، من بينها عمالقة مثل مايكروسوفت وأوراكل وIBM.
وأتاح توفر خدمات استضافة محلية آمنة، للشركات الإقليمية التحرر من الاعتماد على خوادم أجنبية، والعمل من داخل دبي بكفاءة عالية. كما أدى دمج المدينة ضمن محفظة «دبي القابضة» عام 2004 إلى تعزيز استدامتها، وترسيخ دورها بوصفها البوابة الرقمية الأولى في المنطقة.
تحوّل من الاستضافة إلى الابتكار
سرعان ما تطور دور المدينة من مجرد مركز استضافة إلى حاضنة لحلول الذكاء الاصطناعي والبحث والتطوير. وبين عامي 1999 و2014، أضافت نحو 100 مليار درهم (27 مليار دولار) إلى اقتصاد دبي، وأسهمت بحوالي 65% من الناتج التقني للإمارة بحلول 2024.
كما وفّرت المدينة ما يزيد على 125 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، لتكون ركيزة أساسية لتنويع الاقتصاد الوطني.
ريادة إقليمية.. وإلهام عالمي
بينما كانت مراكز البيانات تتركز في ذلك الوقت في عواصم التكنولوجيا مثل وادي السيليكون ولندن وطوكيو، اتخذت دبي خطوة استباقية، فأنشأت أول مركز بيانات عالمي في المنطقة، لتلهم باقي دول الخليج مثل السعودية وقطر لاحقًا بالمضي في المسار نفسه.
ورغم أن الاستثمار الأولي لم يتجاوز 50 مليون دولار، مقارنة بمئات الملايين التي ضُخت في الغرب، فإن جرأة القرار الإماراتي صنعت الفرق.
السباق العالمي على مراكز البيانات
مع انفجار تقنيات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، تحولت مراكز البيانات إلى بنية تحتية استراتيجية، أشبه بمحطات الطاقة في الاقتصاد التقليدي. واليوم تُقدّر قيمة صناعة مراكز البيانات عالميًا بنحو 242.7 مليار دولار في 2025، مع توقعات بتجاوزها 584 مليار دولار بحلول 2032.
وفي هذا السياق، لم يعد الشرق الأوسط متفرجًا، بل أصبح من أسرع الأسواق نموًا، مستقطبًا استثمارات ضخمة. فالإمارات والسعودية وحدهما أنفقتا 1.5 مليار درهم على هذا القطاع عام 2022، بنمو سنوي يقارب 30%.
منظومة رقمية متكاملة تغيّر حياة الأفراد
ساهمت وفرة البنية الرقمية في تسريع تقديم الخدمات الذكية للمجتمع الإماراتي، من التعليم والرعاية الصحية، إلى الدفع الإلكتروني والترفيه. وارتفعت نسبة مستخدمي الإنترنت في الإمارات من 24% عام 2000 إلى 98% اليوم.
كما تغيرت ثقافة الاقتصاد، إذ أصبحت البيانات موردًا استراتيجيًا تتنافس عليه الدول والشركات، وتحوّلت مراكز البيانات إلى ركيزة للأمن السيبراني والسيادة الرقمية.
قرارٌ يصنع الفرق
عندما وقف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عام 2001 داخل أول مركز بيانات في دبي، لم يكن يحتفي فقط بمنشأة تقنية، بل يضع حجر الأساس لمستقبل رقمي متكامل.
واليوم، بعد عقدين، تحتل الإمارات مكانة متقدمة على خارطة مراكز البيانات العالمية، وتواصل استثمارها في اقتصاد المستقبل بثقة، مستندة إلى رؤيةٍ طموحة، وبنية تحتية راسخة، وقيادة لا تنتظر التغيير... بل تصنعه.