في تحول لافت يُدرّس في كبرى كليات ريادة الأعمال، استطاعت فنلندا أن تُعيد رسم ملامح اقتصادها بعد سقوط أحد أبرز أعمدته التكنولوجية، لتصبح خلال العقدين الماضيين واحدة من أكثر البيئات حيوية وجذباً للشركات الناشئة في أوروبا.
هذه الدولة الإسكندنافية، المعروفة بمناخها البارد القاسي وشتائها الطويل، حولت ظروفها المناخية إلى رافعة اقتصادية، حيث أصبحت وجهة مفضلة لمراكز البيانات العالمية. فمن خلال استغلال وفرة المياه الباردة والطاقة المتجددة بأسعار تنافسية، باتت فنلندا تحتضن منشآت بيانات عملاقة لشركات مثل غوغل وتيك توك، وهو ما جعلها لاعباً رئيسياً في البنية التحتية الرقمية العالمية.
مناخ بارد.. وبيئة أعمال ساخنة
المناخ الفنلندي، الذي طالما اعتُبر تحدياً طبيعياً، تحوّل إلى أداة جذب قوية، إذ يوفّر بيئة مثالية لتبريد الخوادم بشكل طبيعي، مما يقلل استهلاك الطاقة. وقد استفادت غوغل من هذه الميزة بتحويل مطحنة ورق سابقة في مدينة هامينا الساحلية إلى مركز بيانات متطور باستثمارات تجاوزت 4.5 مليار دولار.
وتستعد شركة "تيك توك" أيضاً لإطلاق منشأة جديدة في مدينة كوفولا، باستثمار يقدّر بمليار دولار.
وتقول رئيسة بلدية كوفولا، ماريتا تويكا، إن الموقع يمتلك كل المقومات اللازمة: من بيروقراطية حكومية مرنة، إلى وفرة الأراضي الصناعية، إلى مناخ مستقر وأمن داخلي عالي المستوى.
كما أن هناك فوائد بيئية مباشرة، حيث يتم إعادة استخدام الحرارة الناتجة من مراكز البيانات في تدفئة آلاف المنازل خلال فصل الشتاء، كما في مشروع شركة تيليا الذي يزوّد أكثر من 14 ألف منزل بالتدفئة المستخرجة من منشآتها الرقمية.
بعد نوكيا.. ولادة منظومة ريادية
لكن القصة الأهم في رحلة فنلندا التكنولوجية تعود إلى لحظة سقوط عملاق الاتصالات "نوكيا"، التي كانت في أواخر التسعينيات تمثل أكثر من 4% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وربع صادراتها.
ومع بداية الألفية، واجهت الشركة تراجعاً دراماتيكياً بعد أن فشلت في مواكبة الطفرة في الهواتف الذكية بقيادة أبل وسامسونغ، مما أدى إلى تسريح عشرات الآلاف من الموظفين، وتسبّب في صدمة اقتصادية وطنية.
إلا أن هذا الانهيار لم يكن نهاية الطريق، بل كان نقطة التحوّل. فالكثير من الكفاءات التي خرجت من نوكيا انطلقت في تأسيس شركات ناشئة، وأسهمت في بناء منظومة تكنولوجية متكاملة.
وتم إنشاء حاضنات أعمال ومساحات للابتكار مثل "Maria 01" في العاصمة هلسنكي، الذي يُعد اليوم أحد أكبر مراكز ريادة الأعمال في الشمال الأوروبي، ويوفر مساحة تمتد لأكثر من 215 ألف قدم مربع للمبدعين في مجالات التقنية.
الفشل.. ثقافة النجاح في فنلندا
في دلالة واضحة على تغيير العقليات، تحتفل الشركات الناشئة في فنلندا سنوياً في أكتوبر بـ"يوم الفشل"، فعالية أطلقها طلاب جامعيون تهدف إلى إزالة الوصمة المرتبطة بالإخفاق، وتشجيع رواد الأعمال على اعتبار الفشل جزءاً طبيعياً من رحلة النجاح. وهو احتفال يُجسّد فلسفة البلاد الجديدة التي ترى في التعلّم من الأخطاء مساراً أساسياً نحو التميّز.
ورغم أن أبرز الابتكارات الفنلندية في العقد الأخير ارتبطت بألعاب الهواتف مثل "أنغري بيردز" و"كلاش أوف كلانز"، وأجهزة التكنولوجيا القابلة للارتداء مثل خاتم "أورا"، إلا أن البلاد أصبحت اليوم مركزاً مهماً لتقنيات مثل التكنولوجيا المالية، والصناعات الدفاعية، والصحة الرقمية، والتقنيات الخضراء.
فنلندا، التي فقدت رمزها الصناعي قبل عشرين عاماً، أثبتت أن من قلب الانهيار يمكن أن تُبنى النهضة، ومن قسوة الطبيعة يمكن أن تُصنع الفرص.