لم تَعُد الرؤية المشتركة التى تتحول فيها مصر إلى اقتصاد حديث ومزدهر وسريع النمو هدفاً بعيد المنال. فالإصلاحات التي تخلق فرصاً مشتركة لأهم أصل تمتلكه مصر ـ وهو شعبها الذى تتزايد أعداده بمعدلات سريعة ويمثل الشباب نسبة كبيرة منه ـ من شأنها المساعدة فى تحويل هذه الرؤية إلى حقيقة واقعة وضمان تحقيق تطلعات كل المصريين. ومع النجاح في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، حان الوقت لإطلاق الإمكانات الحقيقية للاقتصاد المصري.
فما الذى أدى إلى تواضع أداء النمو الاقتصادى فى مصر على مدى عدة عقود مقارنة بمثيلها من البلدان؟
الإجابة هي أن الناتج الاقتصادي كان مكبلاً بقيود نموذج نمو منغلق يتسم بالاعتماد على الذات اقتصادياً وتطبيق نظام موسع للرعاية الاجتماعية يقوم على مظلة الدعم التى تغطى الجميع. وقد أدى هذا إلى تفضيل السياسة الصناعية الموجهة وإعطاء الدولة دوراً أكبر من المعتاد فى توظيف العمالة، وفى الاستثمار الذى يركز بصورة مفرطة على الصناعات الموجهة للسوق المحلى فقط والتى تتسم بكثافة استخدام الطاقة. وبالتالي، لم تتمكن مصر من الاستفادة الكاملة من فرص العولمة والنمو القائم على دور القطاع الخاص والتى رفعت مستويات المعيشة على نطاق واسع وبمعدلات سريعة فى كثير من الاقتصادات المشابهة. ومع الاستمرار فى اتباع هذه السياسات، وفى ظل جمود سعر الصرف وأسعار الوقود، انخفضت تنافسية مصر الخارجية ونشأت عجوزات كبيرة فى الموازنة العامة والميزان التجارى خلال السنوات الأخيرة. وتسبب هذا فى ارتفاع الدين العام وتراجُع الاحتياطى الأجنبى إلى مستويات غير قابلة للاستمرار فأصبح التحول عن هذا المسار أمراً ضرورياً. وعلى ذلك، شرعت السلطات المصرية فى برنامج للإصلاح الاقتصادي، والذى بدأ يكتسب الآن زخماً متزايداً. ويدعم هذا البرنامج اتفاق مع صندوق النقد الدولى يوفر المشورة بشأن السياسات الاقتصادية إلى جانب التمويل اللازم لتيسير الإصلاحات المطلوبة. وكانت المقومات الأساسية للبرنامج على النحو التالي:
تعويم سعر الصرف فى عام 2016، وهو ما كان ضرورياً للتخلص من ضعف تنافسية الصادرات المصرية ومعالجة النقص الحاد فى النقد الأجنبي. وقد أدى التعويم إلى اختفاء السوق الموازية وخلق حوافز للإنتاج المحلى والصادرات، وتقليص الواردات.
تخفيض دعم الوقود وتطبيق ضريبة القيمة المضافة، للحد من الضغوط على الموازنة العامة. وقد أدى هذا إلى تحرير موارد أصبح من الممكن توجيهها لتحسين المساعدات الاجتماعية المقدمة للفئات الأشد احتياجاً، بدلاً من دعم الوقود الذى يحصل على معظمه الأغنياء وليس الفقراء.
اتخاذ البنك المركزي إجراءات حاسمة على صعيد السياسة النقدية، منها رفع أسعار الفائدة، للحد من الارتفاع الحتمي لمعدل التضخم نتيجة لهذه التعديلات.
إجراء إصلاحات لتحسين مناخ الأعمال وتوفير الدعم الضرورى لتشجيع استثمارات القطاع الخاص، بما فى ذلك استحداث قانونين جديدين للاستثمار ومنح التراخيص الصناعية. وبدأت هذه الإجراءات الجريئة تتحول إلى تعافٍ فى النمو الاقتصادي، وتراجُع فى عجز الموازنة العامة والحساب الجارى لميزان المدفوعات، وانخفاض تدريجى فى معدل التضخم. فقد ارتفع نمو إجمالى الناتج المحلى إلى 5.2% كما تشير أحدث البيانات الربع سنوية، وهبط التضخم من ذروة بلغت 33% فى يوليو إلى 22% فى ديسمبر. ومن المتوقع أن يبلغ نمو إجمالى الناتج المحلى 5% فى العام المالى2017/2018 ككل ثم يرتفع إلى 5.5% في2018/2019؛ كما يُتوقع أن ينخفض الدين العام من أكثر من 100% من إجمالى الناتج المحلى فى 2016/2017 إلى 87% من إجمالى الناتج المحلى فى 2018/2019؛ وأن يشهد معدل التضخم انخفاضاً إلى نحو 13% مع نهاية 2018. وقد حان الوقت للبناء على هذا الأساس المتين بإصلاحات تدعم خلق المزيد من الوظائف التى توفر دخولاً مجزية لجميع الفئات، وخاصة من الشباب والنساء. ولا يمكن خلق هذه الوظائف إلا من خلال القطاع الخاص مع تحديث الدور الذى تضطلع به الدولة فى الاقتصاد. فالدولة ينبغى ألا تتنافس مع القطاع الخاص فى إنتاج السلع والخدمات، إنما تقود الإصلاحات وتعمل على تيسيرها، وتتيح بيئة تنظيمية مستقرة وشفافة ، وتوفر الحماية الاجتماعية لشرائح المجتمع الأشد احتياجاً لها.
فكيف يمكن أن تتحول مصر إلى بلد إقليمى رائد فى الاستثمار والنمو؟ تتضمن الإصلاحات الأساسية اللازمة لتحقيق هذا التحول الآتي:
- وضع إطار تنظيمى حديث يخلق مناخاً من الفرص المتكافئة فى كل القطاعات، ويشجع المنافسة العادلة دون التحيز لمجموعة من المشاركين فى السوق على حساب الآخرين.
- اندماج أكبر فى التجارة العالمية، بما فى ذلك إزالة العوائق أمام حرية التجارة، والسماح لمصر باغتنام فرصة ارتفاع الطلب العالمى وتحفيز قطاعها الخاص على الابتكار والمنافسة.
- إتاحة فرص أفضل للحصول على التمويل والأراضى بشروط شفافة تحددها قوى العرض والطلب، مما يمكن أن يسهل عملية الاستثمار من جانب رواد الأعمال والشركات الأكثر إنتاجية.
- زيادة الشفافية والمساءلة فى المؤسسات المملوكة للدولة بما يكفل كفاءة استخدام الموارد العامة وعدم مزاحمة الدولة للقطاع الخاص.
- تقوية قواعد الحوكمة والحد من تصورات الفساد، الأمر الذى يمكن أن يشجع الاستثمار الخاص ويخلق فرص العمل.
- إجراء إصلاحات فى سوق العمل تساعد الشباب وعددا أكبر من النساء على التسلح بالمهارات اللازمة لشغل وظائف بدخول مجزية.
- إجراء إصلاحات فى المالية العامة تُدِر موارد تُستخدم لحماية محدودى الدخل، حتى لا يُترك أحد وراء الركب عند انطلاق عجلة النمو.