أسفرت الانتخابات البرلمانية في العراق عن نتائج بلا فائز واضح، لكنها حملت دلالة جوهرية مفادها أن المشهد السياسي تجاوز حدود التوازنات الطائفية والحزبية التقليدية، ليضع الدولة أمام امتحان اقتصادي حقيقي يتطلب قرارات إصلاحية حاسمة. فاقتصاد يعتمد على النفط بأكثر من 90% لم يعد يحتمل مزيداً من التأجيل أو البقاء رهينة لتقلبات أسعار الخام.
سلطت قناة "الشرق" الضوء على التحديات التي تنتظر الحكومة المقبلة، ومدى قدرتها على تحويل نتائج الانتخابات إلى فرص لإطلاق اقتصاد متنوع وجاذب للاستثمار، بعيداً عن دائرة الاعتماد الأحادي على النفط.
اقتصاد يعيش على إيقاع النفط
يعاني الاقتصاد العراقي من هشاشة كبيرة نظراً لاعتماده شبه الكامل على النفط. تقلبات الأسعار أصبحت المحرك الأول للإنفاق الحكومي، وهو ما خلق علاقة خطرة بين السياسة والاقتصاد والواقع الاجتماعي.
زياد داوود، كبير اقتصاديي الأسواق الناشئة في "بلومبرغ إيكونوميكس"، لخص هذا الارتباط بعبارة لافتة: "اقتصاد العراق يحيا ويمرض مع النفط". وقال إن سعر التعادل الضروري لتغطية الرواتب والمعاشات يبلغ 53 دولاراً للبرميل، ما يجعل أي تراجع في الأسعار تهديداً مباشراً للاستقرار المالي والاجتماعي.
أما صندوق النقد الدولي، فقد رفع سقف التحذير بتقديره أن سعر التعادل المالي في ميزانية العراق يصل إلى 84 دولاراً للبرميل، وهو ما يعكس اتساع فجوة الإنفاق مقارنة بالإيرادات المتقلبة.
"الإنفاق الحكومي" اتساع الفجوة وتزايد المخاطر
يرى داوود أن زيادة الاعتماد على النفط ترجع أساساً إلى عاملين رئيسيين:
الإنفاق الحكومي المفرط
رفع سعر صرف الدينار أمام الدولار عام 2023
وأوضح أن البلاد باتت في دائرة مغلقة: كلما ارتفعت أسعار النفط توسع الإنفاق، وكلما انخفضت دخل العراق في ضائقة مالية حادة.
وتشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى أن العجز قد يصل إلى 7.5% من الناتج المحلي الإجمالي في 2025، خاصة بعد انكماش الاقتصاد بنسبة 2% عام 2024 نتيجة تراجع الإنتاج النفطي وتباطؤ القطاعات غير النفطية.
هل تملك الحكومة المقبلة شجاعة الإصلاح؟
مع بدء تشكيل الحكومة الجديدة، يبرز سؤال محوري: هل ستكون هناك قدرة فعلية على تبني سياسات تعزز الإيرادات غير النفطية، أم ستظل القرارات في نطاق التأجيل؟
ويرى داوود أن مواجهة حقيقة الاعتماد على النفط تتطلب قدرة على ضبط الإنفاق، خصوصاً في أوقات ارتفاع الأسعار، مع ضرورة خلق مسارات جديدة للإيرادات المستدامة.
تفاؤل نسبي وتحديات قائمة
أحمد الطبقجلي، الباحث في المجلس الأطلسي، أكد أن المستثمرين لا يتوقعون صدمة كبرى في أسعار النفط على المدى القريب، مشيراً إلى توقعات بارتفاع الطلب العالمي. لكنه ربط استقرار الدينار مباشرة بمستوى الإيرادات النفطية، كون العراق يعتمد على الاستيراد بالدولار بشكل شبه كامل.
ضغوط داخلية لزيادة الإنتاج
بحسب المتحدث السابق باسم وزارة النفط عاصم جهاد، هناك ضغوط سياسية لدفع "أوبك+" نحو زيادة حصة العراق الإنتاجية. وأشار إلى أن التحالف يعيد النظر في طلبات بغداد ضمن حدود لا تمس توازن السوق العالمية.
وأضاف أن القطاع النفطي يواجه تحديات إضافية تتعلق بـ العقود القديمة مع الشركات الأجنبية، إذ يرى العديد من الشركات أن هذه العقود باتت غير عادلة بعد توقيع الحكومة اتفاقيات تفضيلية مؤخراً. وهو ما يفرض، وفق جهاد، ضرورة تعديل العقود القائمة لإبقاء الشركات في دائرة الاستثمار.
كما لفت إلى أن العراق لا يزال يسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي من المشتقات البترولية، مع وجود خطط لتعزيز الاستثمار في الغاز المصاحب، بهدف سد فجوة الطاقة وتحقيق أهداف بيئية واقتصادية.
تحذيرات صندوق النقد
يشدد صندوق النقد الدولي على أن تجنب العراق أزمات مالية جديدة يستلزم:
زيادة الإيرادات غير النفطية
السيطرة على تضخم فاتورة أجور القطاع العام
تعزيز القطاعات غير النفطية
وضع خطة إصلاح هيكلي طويلة المدى
ويتوقع الصندوق انخفاض عائدات النفط إلى 84.2 مليار دولار في 2025 ثم 79.2 مليار في 2026، مع تراجع الاحتياطيات الأجنبية إلى 79.2 مليار دولار بحلول 2026. كما يحذر من استمرار ضعف الاستثمار الأجنبي المباشر الذي يقف عند صفر بالمئة من الناتج المحلي.
التحدي الأكبر أمام الحكومة الجديدة
رعد القادري، الشريك الإداري في "3TEN32 Associates"، أكد أن تنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط يمثل التحدي الأعمق. وقال إن الاعتماد على النفط سيظل محورياً في المدى القريب والمتوسط باعتباره ممولاً أساسياً لأي قطاع ترغب الحكومة في تطويره.
وأوضح أن السؤال الحاسم يدور حول قدرة الحكومة على تنفيذ خطط التنويع وتجاوز العقبات المؤسسية والبيروقراطية.
ورغم التحديات، يتوقع صندوق النقد الدولي عودة النمو في 2025 بنسبة 0.5%، مع تسارع يصل إلى 4.1% بحلول 2029 و2030.
الطاقة المتجددة والغاز والاستثمار
يرى القادري أن العراق يمتلك موارد ضخمة في مجالات الغاز، والطاقة المتجددة، والموارد الطبيعية، لكنها تحتاج لإرادة سياسية وتنفيذ فعّال لجذب الاستثمارات وبناء بنية تحتية متطورة.
وأشار إلى أن قطاع الغاز تحديداً لا يزال بحاجة إلى إصلاحات في البنية التحتية والتسعير وفتح أسواق للتصدير.
في المقابل، يرى الطبقجلي أن العراق، رغم مشكلات التشريعات والبنية التحتية، يمتلك حوافز مهمة لجذب الاستثمارات بفضل عدد السكان الكبير، والرغبة في اللحاق بالاقتصادات العالمية، إضافة إلى تطور القطاع المصرفي الذي يشهد تحولاً نوعياً قد يسهم في صناعة بيئة مالية أكثر جذباً للمستثمرين.
تابعوا آخر أخبار العقارية على نبض