استمر تراجع مؤشر الدولار الأمريكي في اشارة إلى أن الأسواق بدأت تُعيد تقييم مراكزها تجاه العملة الأمريكية في ضوء تحولات كبيرة في مشهد المخاطر العالمي. وأرى أن تسجيل المؤشر لمستوى 98.70، وهو الأدنى في شهر، لا يمكن النظر إليه باعتباره مجرد تصحيح فني مؤقت، بل يعكس تحوّلًا في شهية المستثمرين نحو الأصول عالية المخاطر، مدفوعًا بعوامل سياسية واقتصادية في آنٍ معًا. ويبدو أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتجميد فرض الرسوم الجمركية بنسبة 50% على واردات الاتحاد الأوروبي كان بمثابة شرارة لانطلاق موجة جديدة من التفاؤل العالمي، وهو ما يُترجم مباشرة إلى ضغط هبوطي على الدولار، خاصة مقابل اليورو والعملات المرتبطة بالنمو.
ومن رأيي، تعليق الرسوم الجمركية، وإن كان مؤقتًا، أرسل إشارة قوية للأسواق مفادها أن التوترات التجارية قد لا تتصاعد في المدى القريب، وهو ما خفف من المخاوف المتعلقة بتباطؤ الاقتصاد العالمي. وبالنظر إلى أن التجارة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تمثل نحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فإن تخفيف التصعيد في هذه الجبهة يخلق بيئة أكثر دعمًا للأصول المحفوفة بالمخاطر مثل الأسهم والعملات المرتبطة بالنمو، على حساب الدولار الأمريكي الذي فقد جاذبيته كملاذ آمن. ومن وجهة نظري، فإن الأسواق تتصرف بعقلانية في هذه المرحلة، حيث تُعطي الأولوية لعوامل النمو العالمي على حساب السياسة النقدية المتشددة التي يلوّح بها الفيدرالي.
وفي الوقت ذاته، لا يمكن إغفال تأثير البيانات الاقتصادية الأمريكية نفسها، وخاصة ما يتعلق بخطة الإنفاق التي يدفع بها ترامب والتي بلغت تكلفتها، حسب مكتب الميزانية في الكونغرس، نحو 3.8 تريليون دولار خلال عشر سنوات. هذا الرقم الهائل يُثير قلق الأسواق من احتمالية تفاقم العجز المالي الأمريكي، وبالتالي الضغط على الدولار من خلال قنوات متعددة تشمل توقعات التضخم، وتوجهات أسعار الفائدة، واستدامة الدين العام. وفي ظل هذه المعطيات، من الطبيعي أن نرى ضغوط بيع متزايدة على الدولار، خاصة إذا ترافقت مع ارتفاع في عوائد السندات طويلة الأجل، كما هو الحال حاليًا مع صعود عوائد السندات لأجل 30 عامًا إلى مستويات غير مسبوقة منذ نهاية 2023.
ومن الناحية النقدية، يترقّب المستثمرون محضر اجتماع الفيدرالي الأمريكي وبيانات الناتج المحلي الاجمالي الامريكي هذا الأسبوع، وهما حدثان قد يكون لهما أثر مباشر على توقعات السياسات المستقبلية. إلا أن الاحتمالات التي تُظهرها توقعات الأسواق لا تزال تدعم فرصة ضعيفة لخفض الفائدة في اجتماع يونيو، ما يحدّ من قدرة الفيدرالي على تقديم دعم إضافي للدولار في المدى القصير. لذا أرى أن هذا التوازن الحرج بين التضخم المرتفع والضغوط المالية الناجمة عن خطط ترامب الإنفاقية يجعل مهمة الفيدرالي أكثر تعقيدًا، وقد يدفعه إلى انتهاج نبرة حذرة في المرحلة المقبلة، دون وعود واضحة بخفض الفائدة.
والمثير للانتباه أيضًا هو التباين بين أداء الدولار مقابل العملات الخطرة، كالعملات المرتبطة بالسلع والاقتصادات الناشئة، وأدائه مقابل الملاذات الآمنة مثل الين والفرنك السويسري. الانخفاض العام في مؤشر الدولار الأمريكي يُظهر أنه فقد بريقه حتى في حالات الخوف، وهو ما يُشير إلى تغيّر أعمق في المزاج الاستثماري. فالمستثمرون بدأوا يُفضلون تنويع مراكزهم بعيدًا عن الدولار، وهو ما يدعم وجهة النظر التي تقول إن الأسواق تتهيأ لدورة نقدية جديدة، ربما يكون فيها الدولار في موقع ضعيف.
أما على المستوى السياسي، فإن لغة التصعيد التي استخدمها ترامب في تصريحاته حول إمكانية فرض رسوم جديدة على هواتف آيفون وسلع أوروبية إذا لم تُصنع في الولايات المتحدة تضع الأسواق في حالة من الترقب والشك. ومع أن الأسواق استجابت بشكل إيجابي لتعليق الرسوم، فإنها تدرك جيدًا أن المواقف السياسية لترامب قد تتغير بسرعة، مما يُبقي عنصر المخاطرة السياسية حاضرًا في خلفية قرارات المستثمرين. وفي رأيي، هذا العامل السياسي سيبقى مصدر تذبذب للأسواق، وقد يُحد من قدرة الدولار على التعافي، خصوصًا إن تزامن مع إشارات ضعف اقتصادي محلي.
كما أن تصريحات بعض أعضاء الفيدرالي، مثل موساليم وكوك، أظهرت مزيجًا من التفاؤل والحذر. فرغم الإشارات إلى ثبات توقعات التضخم واستقرار الأسواق المالية، إلا أن أي انحراف سلبي في بيانات الإنفاق أو سوق العمل قد يُجبر الفيدرالي على إعادة النظر في سياسته. وهذا يُعزّز القناعة بأن الدولار لا يستند إلى قاعدة صلبة حاليًا، وأن أي خيبة أمل في البيانات المقبلة قد تدفعه إلى مزيد من الهبوط.
وفي الختام، أرى أن الدولار الأمريكي يمرّ بمرحلة إعادة تسعير حقيقية، لا مجرد حركة تصحيحية قصيرة. تحسّن شهية المخاطرة العالمية، وتخفيف التوترات التجارية، وضبابية المسار المالي الأمريكي، كلها عوامل تسحب القوة تدريجيًا من الدولار. ومع أن الأسواق قد تشهد بعض الارتدادات الفنية، إلا أن الاتجاه العام يبدو مائلًا للهبوط، خاصة إذا جاءت بيانات الإنفاق الشخصي دون التوقعات، أو إذا فشل الفيدرالي في تقديم دعم معنوي قوي للعملة الأمريكية. وحالياً، تميل الكفة بوضوح لصالح العملات الأخرى، ما لم نشهد تحوّلًا حادًا في السياسة أو البيانات الاقتصادية الأمريكية خلال الأيام القادمة.