تشهد سوق تملك الوحدات السكنية في السعودية اهتماماً متزايداً وسط المستثمرين والمقيمين الأجانب، بدعمٍ من وفرة المشاريع العقارية المعروضة، والإجراءات المحفزة. لكن ارتفاع الأسعار، وصعوبة الحصول على تمويل محلي، يبطئان ترجمة هذه "الشهية" إلى حجم صفقاتٍ ملحوظٍ حتى الآن.
يواكب هذا الاهتمام من قِبل الأجانب المشاريع الضخمة التي تنفذها المملكة، وتوافد المطورين العقاريين من المنطقة والعالم لإطلاق مشاريع جديدة، وزيادة حجم التمويل العقاري منذ 2018 وحتى الآن إلى 800 مليار ريال، وتوقعات وصوله إلى 1.3 تريليون ريال بحلول 2030، وسط بلوغ قيمة الصفقات العقارية المنفذة منذ بداية السنة وحتى الآن 630 مليار ريال.
مؤشرات اهتمام الأجانب
لاحظت سابنا جاغتياني، محللة أولى للائتمان لدى "إس آند بي غلوبال"، في تصريح لـ"الشرق"، وجود اهتمام ملحوظ من الأجانب لامتلاك عقارات في المملكة، لكنها أشارت إلى أن حجم هذه الاستثمارات "لا يزال منخفضاً، إذ لم يتحول هذا الاهتمام حتى الآن إلى صفقات فعلية ملموسة بشكل محلوظ على أرض الواقع". وردّت هذا الأمر إلى "عدم توافر مشاريع بنظام التمليك الحر بكثرة، ونقص المعرفة باللوائح والإجراءات".
من شأن هذه المشاريع العقارية التي تشهدها المملكة أن تحوّلها إلى أكبر سوق لقطاع البناء في العالم عام 2028، لتصل قيمة المشاريع بكافة القطاعات إلى 181.5 مليار دولار، بحسب تقرير سابق لـ"نايت فرانك"، في وقت تهدف "رؤية 2030" إلى تسليم أكثر من 660 ألف وحدة سكنية، وأكثر من 320 ألف غرفة فندقية، وأكثر من 5.3 مليون متر مربع من مساحات التجزئة، وأكثر من 6.1 مليون متر مربع من المساحات المكتبية الجديدة، بحلول نهاية العقد.
أما رئيس قسم الأبحاث لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا في "JLL" تيمور خان، فأكد وجود "رغبة متزايدة لدى مجموعة من الجنسيات للاستثمار بالعقارات في السعودية"، مضيفاً لـ"الشرق" أنه مع توفر مجموعة واسعة من المنتجات الجديدة متنوعة الخيارات سواء على صعيد الموقع أو الأسعار، فإن "الجاذبية ستستمر في التوسع، خصوصاً في ظل ثبات أساسيات السوق، وهو ما يدعم تدفقات الاستثمار". لكنه أكد على ضرورة توفر البيانات النوعية "لبناء ثقة أكبر في السوق".
النمو السكاني
المقيمون في السعودية يلعبون دوراً أساسياً في دفع الطلب على القطاع، خصوصاً بعد تفعيل المملكة لأنظمة تأشيرات الإقامة الاستثمارية وفق عمر رضا، الشريك في قسم جذب الاستثمار والبنية التحتية في شركة "PwC" الشرق الأوسط، في حديث لـ"الشرق"، الذي اعتبر أن النمو في الطلب من المقيمين يأتي مدفوعاً بـ"الاقتصاد المزدهر للمملكة، والمشاريع المخطط لها أو القائمة التي تتجاوز قيمتها 1.5 تريليون دولار".
هناك عامل آخر يلعب دوراً رئيسياً في زيادة الاهتمام بالاستثمار في القطاع العقاري، يتمثل في النمو السكاني المتوقع في البلاد بنسبة تتراوح بين 3% و4% بين العام الجاري و2027، والذي سيرفع الطلب.
جاغتياني أشارت إلى توقعات بأن تشهد الرياض بشكل خاص ارتفاعاً كبيراً في أعداد السكان، مما "يزيد الضغط على سوق العقارات في مدينة تعاني أصلاً نقصاً في العرض"، معتبرةً أنه "من غير المرجح أن يلبي العرض الجديد الطلب المتزايد" على المدى القصير.
تزايد الضغط على المعروض من المساكن بالسعودية خلال السنوات الأخيرة، حيث نقلت العديد من الشركات موظفيها إلى الرياض وافتتحت مقرات إقليمية، ما رفع الإيجارات بنسبة 35% خلال السنوات الثلاث الماضية. وقدّر تقرير سابق لـ"نايت فرانك" أن المملكة تحتاج إلى بناء 115 ألف وحدة سكنية سنوياً خلال السنوات الخمس المقبلة، لتلبية الطلب المتزايد من فئة الشباب، وتحقيق أحد أهداف "رؤية المملكة 2030" برفع نسبة تملك المواطنين للمساكن إلى 70%.
يعمل العديد من المطورين على زيادة المعروض من المساكن، بما في ذلك الإسكان المتوسط والفخم ضمن مشاريع "روشن" التابعة لصندوق الاستثمارات العامة. ويجري حالياً تطوير أكثر من مليون وحدة سكنية جديدة، بمراحل مختلفة من التنفيذ في مختلف أنحاء السعودية، ويُتوقع اكتمالها بحلول نهاية العقد، وفقاً لتقرير "نايت فرانك".
وتوقع كريستوفر باين، الشريك وكبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في شركة الاستشارات العقارية، أن "تستقطب السوق السعودية مطورين أجانب كباراً، حيث يرون الفرص الواعدة بها"، وهو ما يحدث حالياً من خلال دخول كبار المطورين المصريين إلى السوق مثل طلعت مصطفى وسميح ساويرس و"حسن علام"، وشركات الاستثمار العالمية على غرار "بلاك روك" و"فلو" التابعة لرائد الأعمال آدم نيومان.
ارتفاع الأسعار
يترافق هذا الإقبال مع ارتفاع بوتيرة متسارعة في الأسعار. صعد الرقم القياسي لأسعار العقارات بنسبة 2.6% في الربع الثالث من السنة مقارنةً بالربع ذاته من العام الماضي، متأثراً بقفزة في أسعار عقارات القطاع السكني بنسبة 1.6%، والتجاري بنسبة 6.4%، وفق بيانات رسمية.
ارتفاع الأسعار يخلق تحديات جديدة بالنسبة للمستثمرين الأجانب، تُضاف إلى "أبرز تحدٍّ الذي يتمثل في السماح للمستثمرين بالوصول لخيارات التمويل المحلية"، بحسب فيصل دوراني، الشريك ورئيس قسم أبحاث الشرق الأوسط في شركة "نايت فرانك"، في مقابلة مع "الشرق".
رضا، من "PwC" الشرق الأوسط، لفت أيضاً إلى النقطة ذاتها، إذ اعتبر أن الوصول إلى التمويل قد يؤدي لزيادة معدلات استثمارات الأجانب في القطاع وفتح فرص جديدة، خصوصاً أن "العديد من المشترين الأجانب يعتمدون حتى الآن على خيارات التمويل البديلة أو رأس المال الخاص".
جاغتياني رأت في هذا السياق، أن إتاحة السعودية لحلول مثل البيع على الخريطة شكلت "حلاً جيداً" لصعوبات التمويل، إذ يمكن لخطة الدفع الممتدة أن تساعد المستثمرين على توزيع احتياجات التمويل، كما تدعم المطورين من خلال تحصيلهم الأموال بشكل مسبق، بما يخفف من المخاطر.
الإقامة المميزة
يُتوقع أن تسهم الإقامة المميزة التي أقرتها المملكة مطلع العام، فضلاً عن التحسينات التنظيمية، في تسريع الاستثمار الأجنبي المباشر بالقطاع العقاري في المملكة، بحسب تقرير سابق لـ"إس آند بي".
للتأهل لهذه الإقامة، على المستثمر شراء عقار سكني لا تقل قيمته عن 4 ملايين ريال (نحو 1.07 مليون دولار)، "وهو ضعف متطلبات الاستثمار في الإمارات (للحصول على الإقامة الذهبية) بمبلغ مليوني درهم"، كما أورد تقرير "إس آند بي غلوبال". مع الإشارة إلى أن كلا البلدين يشترطان أن يكون العقار غير مرهون أو مُقترَض عليه.
يُنوّه دوراني، من "نايت فرانك"، بأن الإقامة المميزة لها دور في زيادة الطلب على العقارات من قبل الأجانب. لكنه نبّه إلى أن دراسات الشركة تفيد بأن 9% فقط من الأجانب على استعداد لإنفاق أكثر من 3.5 مليون ريال سعودي لشراء عقار، مما "يحدُّ من شريحة المشترين الأجانب المحتملين في المملكة".
تترقب سوق العقارات منذ فترة ما تم إعلانه أمس حول منح مالكي العقارات في السعودية الإقامة المميزة والذي يُرجح أن يؤدي إلى ارتفاع في الطلب بحسب "نايت فرانك"
وأظهرت دراسة لشركة الاستشارات العقارية أن 26% فقط من المقيمين يرغبون بالقيام بصفقات عقارية قبل نهاية 2024، في حين أن الغالبية العظمى منهم يفضلون الشراء خلال العامين المقبلين. وردّ دوراني هذه الأرقام إلى ارتفاعات أسعار المساكن الكبيرة خلال السنوات الثلاث الماضية، والتي قد تدفع إلى "نهج الانتظار والترقب".
مكة والرياض وجدة
بحسب تقرير ديناميكيات السوق لشركة "JLL"، فإن المشترين بغرض الاستثمار يختارون مكة والرياض بالتساوي كموقعين مستهدفين بنسبة 28% لكل منهما. أما جاغتياني من "إس آند بي غلوبال"، ورضا من "PwC" فاعتبرا أن الرياض وجدة هما الأكثر جاذبية للأجانب الذين يريدون العيش في السعودية.
لا تقتصر الشهية لعقارات الرياض على الأجانب من خارج المملكة فحسب، إذ يضع المقيمون العاصمة على رأس قائمة المواقع المستهدفة لشراء عقار، بحسب "نايت فرانك".
وقعت شركة "جدة الاقتصادية" اتفاقية مع مجموعة "بن لادن" لاستكمال إنشاء برج جدة، الذي يفترض أن يكون عند اكتماله الأعلى في العالم بارتفاع يصل إلى ألف متر.
كما تحظى مكة المكرمة والمدينة المنورة باهتمام خاص لدى المسلمين الأثرياء، ما يجعلهما مقصداً مهماً لراغبي التملك العقاري. ويُقدّر دوراني قيمة استثماراتهم المحتملة لتملك منازل في المدينتين، بحوالي ملياري دولار.
دوافع الطلب
تمثل الأسباب الدينية والثقافية الدافع وراء قرار 45% من الأجانب الراغبين بتملك عقار في المملكة، بما يجعلها تحتل المرتبة الثانية بين دوافع الشراء، بعد الرغبة في الاستثمار وجني الأرباح.
ويوضح دوراني لـ"الشرق" أن سكان شبه القارة الهندية، ثم العراق، فإندونيسيا، سجلوا أعلى مستويات الاهتمام بشراء عقارات في المملكة. لكنه لفت أيضاً إلى أن 29% من غير السعوديين المقيمين في المملكة أبدوا تطلعهم للشراء والإقامة في "نيوم".
تطوير البنية التحتية لمراكز البيانات في السعودية يتيح فرصاً استثمارية واعدة في هذا النشاط الذي بات يمثل رافداً مهماً لقطاع العقارات في المملكة
الوافدون من أوروبا وآسيا لديهم حالياً رغبة قوية للتملك في الرياض وجدة، كما يرى تيمور خان، من "JLL". مشيراً إلى مشروعات مثل "المربع الجديد" و"الدرعية" في الرياض، و"برج جدة" الذي يُرتقب أن يكون الاطول في العالم، باعتبارها نقاط جذب.
وساهمت أجندة التحول الحكومية في تعزيز الثقة بسوق العقارات المستقرة، وجعلها جذابة للمستثمر الأجنبي، بحسب رضا، من "PwC". مُنوّهاً بالارتفاع في صفقات العقارات خلال النصف الأول من عام 2024، بما يسلط الضوء على زيادة اهتمام الأجانب.
الرهان على المستقبل
تدرك حكومة المملكة وجود تحديات عدّة تواجه القطاع، وشرعت في السنوات الماضية بإطلاق مجموعة من المبادرات المحفزة لنمو السوق العقارية، وجعلها مغريةً للمستثمرين المحليين والمقيمين والأجانب، بما في ذلك إتاحة البيع على الخريطة، وإنشاء البورصة العقارية، وتسهيل الطريق أمام المطورين من خارج البلاد لعقد شراكات وتطوير مشاريع، إلى جانب توقيع اتفاقيات مع شركات أجنبية كبرى مثل "بلاك روك" لتطوير سوق إعادة التمويل العقاري.
أمين منطقة الرياض الأمير فيصل بن عبدالعزيز بن عياف، ألقى الضوء خلال "سيتي سكيب غلوبال" منتصف هذا الشهر، على المشاريع الضخمة و"الآثار السلبية البسيطة" لإدارة هذا الكم من المشاريع، بما في ذلك "الإيقافات، وارتفاع أسعار الأراضي، وتغيير التشريعات، وهي أمور تقلق المستثمرين"، لكنه طمأنهم، معتبراً أنها "آثار بسيطة مقابل الصالح العام الكبير". داعياً إياهم إلى "الرهان على مستقبل الرياض".