ألقى السيد المستشار حماده الصاوي النائب العام لجمهورية مصر العربية كلمةً اليومَ في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الدولي الأول للنيابة العامة الأردنية عن (العدالة التصالحية في السياسة الجنائية المعاصرة)، والمنعقد بالمملكة الأردنية الهاشمية، في الفترة من التاسع عشر حتى الحادي والعشرين من يناير الجاري.
وأكد في كلمته أن النيابات العامة هي الروافد الأسرع لإنجاز العدالة بين السلطات القضائية، إذ بيدها القدرة على إنهاء المنازعات دون محاكمات فيما يسمى بـ«العدالة التصالحية»، وذلك من خلال إصدار أوامر الحفظ، أو الأوامر بأنْ لا وجْهَ لإقامة الدعوى الجنائية للصلح أو التصالح، أو وقف تنفيذ الأحكام في حالات معينة وبضوابط محددة، أو الأمر بأنْ لا وجهَ لإقامة الدعوى لعدم أهمية الواقعة بعد إعمال المواءمات والتسويات التي تنتفي بها غاية المشرع في مختلِف البلاد من العقاب والملاحقة.
وأضاف أنَّ الدعوة المنشودة من هذا المؤتمر تُواكب تطورَ السياسة الجنائية المعاصرة وتحولَها من مجرد استهداف معاقبة الجناة إلى استهداف الحدِّ مما ينتج عن جرائمهم من آثار، كما تُواكب تطورَ مفهوم الجريمة ذاتها التي أصبحت ظاهرة اجتماعية يتعين التصدي لها بالعمل على معالجة أسباب وقوعها بإجراءات تهدف إلى عدم عودة الجناة إلى السلوك الإجراميِّ مستقبلًا، وهو ما يتفق والسياسةَ العقابية المعاصرة.
وأشار إلى أنَّ العدالة التصالحية تُعدُّ آليّةً فعَّالة لتسوية النزاعات، وتحظى بتأييد كبير في المجتمع الدولي الذي يحثُّ على تضمينها في القوانين والتشريعات الوطنية، وأن التشريعات المصرية كان لها السبق في تضمين هذه المفاهيم الهامة في عدة مجالات جنائية منها مجالات جرائم اختلاس المال العام والعدوان عليه، واسترداد الأموال والموجودات بالخارج، وحماية المنافسة والممارسات الاحتكارية، وغير ذلك من الجرائم، كما تجسَّدت في لجنة استرداد الأموال التي يرأسها النائب العام.
ودعا إلى تفعيل وسائل العدالة التصالحية وفض المنازعات في النيابات العامة بالبلدان العربية بإجراء المقارنات التشريعية لسلطات النيابات العامة في هذا الشأن، حتى يستفيد كلٌّ منها بتجربة الآخر، مؤكدًا أنَّ النيابات العامة هي الجسر الحقيقي بين السلطات التشريعية والسياسية والتنفيذية وبين السلطة القضائية، وأنَّ العدالة التصالحية المنشودة ستعمل على تحرير المحاكم مِن كثير من الركام الذي رانَ عليها من أنظمة قديمة، بريادةٍ من النيابات العامة ومبادرةٍ منها في تغليب الصُّلح والتسويات على إصدار الأحكام، وأن تفعيل هذه العدالة يتفق وما تدعو إليه القيم والأخلاق والديانات المختلفة من أنَّ (الصلح خير)، مؤكدًا أنها لا تعني ترك الحقوق، وأنّ السلام لا يبدأ إلَّا مِن حيثُ يستتبُّ العدل، وأنَّ العدل لا يقوم إلا بمفهوم مشترك بين الأطراف من خلال التسويات والتصالحات تحت مظلة العدالة التصالحية التي تضع إجراءات لجبر الأضرار الناجمة عن الجرائم، والحدّ من الآثار المختلفة الناتجة عنها دون اللجوء للقضاء، مشيرًا إلى إمكانية أخذ النافع المناسب للعالم العربي من تجارب الدول الأخرى في هذا المجال حتى تكون النيابات العامة أدواتَ إصلاحٍ وفضِّ منازعاتٍ وتصالحاتٍ، مما سيفضي حتمًا إلى عدالة ناجزة تقوم بها فعلًا النيابات العامة في كثير من الأقضية دون عرض على المحاكم.
وبيَّن ضرورة وضع خطة لتفعيل دعوة المؤتمر نحو العدالة التصالحية، مشيرًا إلى أن فض المنازعات والتصالحات بين الأفراد داخل الأوطان ينتقل حتمًا إلى صُنّاع القرارات في شتى المجالات، وأن مبادرة النيابات العامة هي الآلية الأسرع في القضاء والأنجز في العدالة بالتفعيل والتوسع التشريعي والعملي للعدالة التصالحية وبتبادل الخبرات في هذا المجال، حتى تفصل النيابات العامة بين الناس بهذه الآلية الجديدة بحياديةٍ وثقةٍ وتجرّدٍ من الأهواء على اختلافها دون تفرقةٍ بين أحدٍ وآخرَ ولا بين ديانةٍ وأخرى أو عرقٍ وآخر؛ حتى نصبح في يومٍ ليس ببعيدٍ نواةً لمحاكم عدل عربية حقيقة تنتهي كثيرٌ من المنازعات على يدَيْها.
وأنهى كلمته بتقديم الشكر والثناء للملكة الأردنية الهاشمية، والسيدِ القاضي/ يوسف ذيابات رئيس النيابة العامة لديها، وكلِّ مَن ساهمَ في إقامة هذا المحفل الهامّ، داعيًا المولى بالعمل النافع والجهد المتقبل من ورائه؛ ليعود النفع على البلاد والمجتمعات والشعوب بالخير والعدل والسلام والأمان.